سوق الأسهم يضحك.. ويبكي ( 1- 2)

18/09/2017 15
عبدالله الجعيثن

يصدق على أسواق الأسهم في العالم كله قول المتنبي:

ومن صحِبَ الدنيا طويلاً تقلَّبتء

على عينيه حتى يرى صدقها كذبا..

قلت: ويرى كذبها صدقاً في بعض الاحيان.. ومع مرور الزمان.. وتقلبات الأحوال.. فيشاهد الانسان بعينيه أسعاراً خيالية لأسهم خشاشية لا يصدق ولا يمكن أن يصدق بلوغها ربعها ولكنها الدنيا وسوق الاسهم صورة مصغرة من الدنيا..

وتدور الايام فيجد شركات راسخة كانت اسعارها في عنان السماء، فإذا بها تهوي من حالق و تلامس الثرى.. فأسواق الاسهم تتغير كتغير احوال الدنيا، وتتقلب تقلبات الدهر.. وتجعل المضاربين مرة يضحكون سروراً.. ومرة يقفون على أمشاط اقدامهم فزعاً.. ومرة يكادون يطيرون فرحاً.. ومرةً يفزعون ويجزعون ويكادون مع سوقهم الباكي يبكون ويصابون بالاكتئاب والاحباط وتعب الاعصاب..

أسواق الاسهم تصرخ بملء فيها:

دوام الحال من المحال.. وأسواق الأسهم تقول بلسان الحال:

لا تحسبنَّ سروراً دائماً أبداً

منء سرَّه زمنٌ ساءته أزمانُ

ولكن المسرات في اسواق الاسهم اكثر من الاساءات، خاصة للعاقلين الفاهمين، أما الجاهل المقدام فسوق الاسهم يصرخ في وجهه كما تصرخ الدنيا:

هي الدنيا تصبح بملء فيها:

حذارِ حذارِ من بطشي وفتكي

ولكن الجاهل المقدام - في الغالب العام - قد أصم الطمع اذنيه وأعمى عينيه فلا يسمع.. ولا يرى.. حتى تقع الفأس في الرأس ويلقنه سوق الاسهم الدرس القاسي بشكل عملي يحس به في نفسه وفي أعماق قلبه وقد يتعظ وقد ينسى ويعود لحماقته.. ان بقي له ما يعود به..

@@@

والأسهم المضحكة المفرحة لأصحابها هي الاسهم التي اشتروها بعد ان درسوها ورأوا انها اقل من قيمتها العادلة.. وصبروا عليها حتى أضحكت سنهم وابهجت انفسهم.. ولكن هناك أسهماً مضحكة بشكل آخر.. أسهم ترتفع على غير اساس.. كالشاة الهزيلة يسمنها اهلها تمهيداً لبيعها وذبحها.. وقد يسمنونها بالورم (وما من عافية ان يكبر الورم) يجعلونها تأكل الملح وتشرب الماء قبل البيع بأيام حتى تنتفخ وتتورم من الخارج وهي (معية) هزيلة من الداخل فيقبل على شرائها الجاهل وهو (يحسب الشحم فيمن شحمه وَرَم) فيشتريها بأغلى الأثمان وقد تضحكه يوماً أو يومين ولكنه إذا لم يتخلص منها أبكته وأنسته ذلك الضحك الذي يشبه البكاء فهي سهم ينطبق عليه قول المتنبي - بعد التعديل -:

وماذا بسهمٍ من المضحكات.

ولكنه ضحك كالبكى

فارتفاعها يضحك العارفين بما في بطون الأسهم وهو من باب (شر البلية ما يضحك)..

@ @ @

ومهما تدرب المتداول في سوق الأسهم وَجرَّب، ومهما ربح وتعلم، فإنه ليس بمنجاة من تقلبات الأسواق، ولا بأمان من عنف الخسائر، فالمضاربون المحترفون قد يقفون ضاحكين باسمين وأسهمهم ترتفع والسوق يضحك لهم ثم يخر عليهم فجأة وهم جالسون أوقوف كما يخر السقف على أهل البيت، ويذهب ما قدروا وما حسبوا وما خططوا وما قرروا من خروج بعد يوم.. أو يومين.. رغم علمهم وخبرتهم وبصيرتهم وبصائرهم (إذا حل القدر عمي البصر) ورغم تخطيطهم وحذرهم وحسابهم وتقديرهم ووقوفهم على مجريات الأمور:

يقفون والفلك المقدّر سائر

وتقدرون فتضحك الأقدار

والمتداولون في سوق الأسهم قد يكون لدى كثير منهم أهداف بعيدة وآمال شديدة ويرون السوق يرتفع فلا يبيعون، وينسون ما رأوا من نزول سريع بعد ارتفاع شديد فيضحكون مع السوق الضاحك ثم تخرس الضحكات على أفواههم إذا تغير السوق فنزل بسرعة، وباغتهم فجأة، كأن قصتهم مع الأرباح والخسائر مع الآمال والمصارع قصة الإنسان مع الحياة:

إنَّا - وفي آمال أنفسنا

طُول - وفي أعمارنا قصر -

لنرى بأعيننا مصارعنا

لو كانت الألباب تعتبر

خَرسَت - لعمر الله - ألسننا

لما تكلم فوقها القدر!

@ @ @

وإذا كان سوق الأسهم نفسه يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً.. بل مجرد أرقام صماء.. فإن المتعاملين فيه ليسوا كذلك.. هم قلوب تنبض ومشاعر تحس وكتل من العواطف والأعصاب.. وأكثرهم مهما أضحكهم السوق.. أو أبكاهم.. عاشقون له.. كأنه في أعينهم تلك الغادة الحسناء التي عشقها الشاعر ووصفها في شعر جميل توهج في أغنية فيروز توهّج البريق في الألماس:

يبكي ويضحك لا حزناً ولا فرحاً

كعاشق خطَّ سطراً في الهوى ومحا

من بسمة النجم همس في قصائده

ومن مخالسة الظبي الذي سخا

قلب تمرس باللذات وهو فتى

كبرعم لمسته الريح فانفتحا

ما للأقاحية السمراء قد صرفت

عنا هواها، أرق الحسن ما سمحا

لو كنت تدرين ما ألقاه من شجن

لكنت أرفق من آسى ومن صفحا

غداة لوَّحت بالآمال باسمة

لان الذي ثار وانقاد الذي جمحا

فالروض مهما زهت قفر إذا حرمت

من جانح رف أو من صادح صدحا

 

نقلا عن الرياض