في ظل مجتمعنا واقتصادنا الرِّيعي طوال العقود الماضية، لم تنتشر لدينا ثقافة الالتزام بمبادئ الأهداف الرقمية والزمنية المحددة التي بموجبها يتحقق تنفيذ مختلف المشروعات وَفْقَ جداول زمنية واضحة تتبعُها مُساءلة في حالة خَرْقِها وعدم الجدية في التطبيق. وعلى العكس من ذلك فإنَّ ثقافة "الذي لا يتمَّ تنفيذه غدًا، يتمُّ بعدَ غد"، كانت هي السائدة في ظل الفوائض النفطية الضخمة التي مرت عاشتْها بلادنا، وفي ظلِّ ورغد العيش الذي كان يعيشه الكثيرون مِنَّا.
وَبِما أنَّ المشروعات الحكومية كانت محور " عقد القِران" بينها وبين الفساد، فقد كان التفسير الذي يُعطى لتأخير تسليم هذه المشروعات أو الأخطاء التي تظهر في التنفيذ، هو " أنَّ ذلك كان خارجًا عن الإرادة".
وما ظهورُ العدد الكبير جدًا من المشروعات المتعثرة إلَّا انعكاس لغياب المساءلة والمحاسبة من جهة، وعدم وجود تواريخ محددة للاستلام والتسليم من جهة أخرى، إضافةً إلى عدم وجود متابعة منتظِمة من الجهات المختصة بهذه المشروعات، وإلى التأخير المصاحب لِدفع مستحقات المنفذين للمشروعات.
لكنَّ ذاك الوضع كلُّه لابدَّ أنَّ يتغيَّر مع تَغَيُّر أوضاعنا الاقتصادية، نتيجة للانخفاض الكبير الذي لحق بأسعار مَوْرِدِنا الأساسيِّ، وهو النفط. مِمَّا اقتضى إحداث صدمة اقتصادية قِوامُ التغَلُّبِ عليها التقشفُ وإيقافُ نزيف الهدر الذي كان سائدًا، وتَتَبُّعُ الفساد والمفسدين أينما كانوا، واضعين في اذهاننا أنَّ هذا هو العلاج الناجع الوحيد الذي علينا تَبَنِّيه. ومِنَ الأمور المُبشِّرة في هذا الصدد، بَدْء ثقافةِ الأهداف الرقمية والزمنية في شَقِّ طريقها إلى كلِّ مناحي تنميتنا الاقتصادية وبرامجها.
وهذه الثقافة وإنْ كانتْ قد ظهرتْ على استحياء ــ في مراحل سابقة - إلّا أنَّه لم يُكتب لها الصمود. ولا زلتُ أذكر مشروعًا مُهِمًّا لأمانة إحدى المدن، وضعت أمامه لوحة كبيرة تبين بدقَّة (بالأيام والساعات والدقائق والثواني) كَمَّ الزمنِ المتبقي للانتهاء منه. وفرحنا جميعا بذلك، ولكنَّ فرحتنا لم تتمَّ؛ إذْ لاحظنا بعدَ مُضيِّ فترة من بدء التنفيذ أنَّهُ تمَّ سحبُ تلك اللوحة، ففسرنا ذلك بأنها قد سُرقتْ وسيتمُّ وضعُ أخرى مكانها، وانتظرنا شهورًا، والمشروع يُراوِحُ مكانه واللوحة لمْ تَعُدْ إلى مكانها. فَفَهِمنا أنَّ المسألة لم تكن سرقةً للوحة، بلْ هو التأخُّر المزمِن في التنفيذ. وأظُنَّ أنَّ المشروع لم ينته حتَّى وقتنا هذا، ورُبّما يكونُ قد أُدْرِج مع بقية المشروعات المتعثرة. وأرى أنَّ مرور هذه المشروعات المتعثرة دون مساءلة، " وعفا الله عما سلف"، سيكون إيذانًا باستمرار سوء الأداء والفساد.
والفساد هنا ليس الفساد المالي وحده بل يتراكبُ معه الفسادٌ الإداري، والإهمال والبيروقراطية، وجميعُها قد أعاقتْ مسيرتنا وتفكيرنا طوال الفترات الماضية.
وتمرُّ أمام أعيننا رؤية 2030 التي ترسم خارطة طريق لمستقبلنا الاقتصادي والاجتماعي بأهداف رقمية وزمنية افتقدناها، ولم نكن لنتعامل معها بجدية في الماضي. وأصبحت المُساءلة في إطار الرؤية تعتمد وتُقاس بما حُدِّدَ من أهداف رقمية وبما تحقق منها في كل فترة، وبتحديد المسؤول عن كلِّ تأخير في التنفيذ والتسليم، وأصبحت حزمة متكاملة لا تتجزأ. فمشروعات تحسين جودة التعليم هي انطلاقة لتوفير عمالة ماهرة ومُدرَّبة ومُبتكِرة ومبدِعة. وتشغيل المطارات والقطارات المُعَطَّلة يحقق هدف الثلاثين مليون حاج ومعتمر، وهو هدف يجب أن يتحقق بحلول عام (2030). وهكذا.
وقد أصبح المسؤولون من وزراء وغيرهم يترقبون بعد كل مساءلة لهم في مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية، يترقبون أوامرَ ملكية باستبدالهم، فالوطن والحمد لله مليء بالقيادات والكفاءات في كل المجالات. وأصبح المسؤول الحكومي خَليَّة نحل لا تهدأ، أو هكذا هو المتوقَّع منهم في عملهم في مزرعة الدوائر الحكومية. فليس لدينا رفاهية الوقت لِلتمهُّل في تطبيق برامج الرؤية أو ارتكاب أخطاء هنا وأخطاء هناك. والمواطن يَودُّ أن ترى هذه البرامج النور اليوم وليس غدًا، وبالتالي، ومِنْ منطلقٍ الحرص على هذا الوطن الغالي ومستقبله، هو مُستعدٌّ ومتقبلٌ انتظار الأعوام التي تسبقُ هُلُول البشائر ونتائجَ ما تحقَّقَ من خطة التحول الوطني الموعودين بها – بإذن الله - بحلول عام 2020.
وكان لي مؤخرًا، كما كان لغيري فرصةً للاطلاع على برامج قياس الأداء لبعض الوزارات الحكومية التي جاءت مفصلة وسهلة المتابعة، يستطيع المواطن العادي أنْ يتبين من خلالها ما يجب أنْ يتحقق في كل مرحلة، وطبيعة العوائق التي قد تواجهها هذه الجهة أو تلك، وسُبُلَ التغلب عليها. واستبشرتُ خيرًا بها، وإن كان الفصل والحكم على إجمالي حسن أو سوء الأداء، هو تسليم هذه البرامج والمشروعات.
وأختم بالقول: بأنَّ اعتماد ثقافة الأهداف الرقمية والزمنية المحددة سهًل من التعامل مع رؤيتنا 2030 من حيث المتابعة المرحلية والمراقبة والمساءلة، وسهلٌ أيضا من حيثُ تمكينه للمواطن من معرفة ما تم إنجازه وما لم يتم، وتحديد المسؤول. وكل الدول المتقدمة تتبنى هذه الثقافة بحرص شدي، ولا تقبل أعذارً للتأجيل والمماطلة، أو أنْ تكون مُدخلاً للفساد الذي عانينا منه طويلاً. وكلنا مع الوطن في السراء والضراء.
نقلا عن عكاظ
وأنا أقول بعد إذنك يادكتور: أن من أول روافد الفساد هو أن يترك مثل هذه الكنوز الوطنية ( أنت وأمثالك) تدفن بعدم إلازامها بالظهور وبصورة مكثفة في الصحف اليومية وفي المنتديات، الرسمية وغير الرسمية وفي المناسب بأنواعها، وفي المؤسسات الأكاديمية وحتى في المساجد، وفي كل تجمع بعد تأمين أفضل الظروف لكم لجعل ما في جعبتكم من خبرات عظيمة واقعا معاشا وذلك لأحداث طفرة معرفية في فقه الاقتصاد وخاصة في مجال النفط.