هل يمكن دول الخليج أن تكيّف أوضاعها الاقتصادية في ظل إيرادات نفطية منخفضة عن المستويات القياسية التي شهدتها خلال السنوات الأربع الأولى من هذا العقد؟ قد لا تعود الأسعار إلى تلك المستويات أي حين تجاوز سعر البرميل 100 دولار وتمكنت دول المنطقة من جني إيرادات مهمة وتحقيق فوائض على مدى سنوات.
إذاً ماذا يمكن هذه الحكومات أن تفعل بعدما اعتادت إنفاقاً جارياً كبيراً والتزامات مشاريع أساسية مكلفة؟ ثم كيف يمكن أن تدفع شعوب المنطقة للقبول بمستويات إنفاق منخفضة، ما يعني إعادة النظر في سياسات الدعم والتي تشمل خدمات أساسية، وكذلك مراجعة سياسات التوظيف في المؤسسات والدوائر والمرافق الحكومية؟
لن تكون رحلة التكيّف سلسة ويسيرة، وهناك احتمالات لمواجهة مشاكل اجتماعية وسياسية متفاوتة. وبطبيعة لحال ستختلف الأمور من بلد إلى آخر، فهناك بلدان تمكنت حكوماتها من اتخاذ قرارات صائبة لتعزيز توجهات الترشيد ولم تواجه أي معارضات تذكر، مثل السعودية وعُمان ودولة الإمارات. لكن بلداً مثل الكويت لابد أن تواجه حكومته اعتراضات من مجلس الأمة والنقابات العمالية وعدد من منظمات المجتمع المدني والقوى السياسية. والكويت أيضاً ستشهد خلال الأشهر المقبلة استعدادات للانتخابات البرلمانية بعد نهاية الفصل التشريعي الحالي، ولا ريب في أن الكثير من السياسيين سيطرح ما بجعبته من شعارات شعبوية من أجل كسب الانتخابات.
ماذا على دول الخليج أن تفعل كي تتمكن من التكيّف مع أوضاع سوق النفط وتراجع إيراداتها السيادية؟ هذه البلدان اتبعت سياسات مالية أوجدت أوضاعاً اقتصادية عصية على الإصلاح. فكيف يمكن إقناع المواطنين بأن لابد من وضع نهاية لسياسات الدعم المفتوحة والمتعلقة بالخدمات والمرافق والإسكان، وكذلك ضرورة إيجاد قنوات للتوظيف خارج إطار الإدارات والمؤسسات الحكومية؟ هناك أهمية لتغيير الفلسفة الاقتصادية الراهنة والتي لم تهتم بمساهمة المواطنين في العملية الاقتصادية كمنتجين أو كدافعي ضرائب للخزينة العامة، وتلك التصورات التي أوحت للإدارات الاقتصادية بأن المواطنين يمكن لهم الاعتماد على إنفاق الحكومات والتمتع بريعها من دون بذل جهود تذكر، والاتكال على عمالة وافدة لتشغيل المنشآت الوطنية، تلك التابعة للحكومة أو العائدة للقطاع الخاص. ظلت هذه السياسات نافذة، في معظم بلدان الخليج المصدرة للنفط، منذ بداية عصر النفط وتكرست في شكل مطلق بعد الصدمة النفطية الأولى عام 1974. يعني ذلك أن النهج الاقتصادي الحاكم اعتُمد منذ أكثر من أربعين سنة ولم يتم إجراء تعديلات على سياساته في شكل أساسي حتى الآن.
بدأت السعودية بطرح رؤية تنموية جديدة تتسق مع استحقاقات التغيير. هذه الرؤية قد تعيد الأمور إلى نصابها في البلاد وتعزز إمكانات التنوع في القاعدة الاقتصادية بعد مرور زمن معقول. لا شك في أن الاقتصاد السعودي هو أهم اقتصاد في منطقة الخليج إذ تعد السعودية من ضمن قائمة العشرين بلداً ذات الاقتصادات الكبرى وبلغ ناتجها الإجمالي 650 بليون دولار عام 2015، ويمثل واحداً في المئة من قيمة الناتج الإجمالي العالمي.
كما أن عدد سكان السعودية يبلغ 32.3 مليون، ويمثل المواطنون السعوديون 67 في المئة من إجمالي السكان، وهذه نسبة مهمة إذا ما قورنت بالأوضاع الديموغرافية في بلدان الخليج الأخرى حيث تزيد نسبة الوافدين في شكل كبير على نسبة المواطنين. وإذا أخذنا الاقتصاد النفطي في الاعتبار فإن السعودية تنتج 10.3 مليون برميل يومياً وتصدر منها ما يزيد على 7.2 مليون برميل يومياً.
وتمثل المملكة اقتصاداً أساسياً في العالم ولا شك في أن استقرارها الاقتصادي والسياسي يمثل أهمية لمختلف البلدان الرئيسية في أميركا الشمالية أو أوروبا وآسيا. لذلك فإن قدرتها على التكيّف الاقتصادي وإنجاز الرؤية الاقتصادية الجديدة والطموحة ستمكنان من تحقيق تحولات هيكلية وبناء اقتصاد عصري يعتمد على قدرات بشرية مسلحة بالتعليم الحديث، وكذلك على توظيف كفوء للموارد الاقتصادية المتاحة. فمن أهم عناصر النجاح في التحول المنشود هو امتلاك الإرادة السياسية والتعامل بشفافية مع الاعتراضات والمقاومة الاجتماعية للتغيير.
لا شك في أن دولة الإمارات أيضاً، قطعت شوطاً في إنجاز التحول من الاعتماد على النفط إلى اقتصاد متنوع بدرجة ما، ومن ذلك استغلال البنية التحتية المتطورة لتمكين الموانئ والمطارات من توفير خدمات لبلدان قريبة وبعيدة. كذلك هناك توظيف الخدمات السياحية لتعزيز إيرادات البلاد. وربما تعاني الإمارات والتي بلغ عدد سكانها 9.3 مليون، لا يمثل المواطنون فيها سوى 11.3 في المئة من إجمالي السكان، من إشكالات ديموغرافية. ويمثل تطوير الاقتصاد فيها تحدياً مهماً إذا تقرر الاعتماد في شكل أفضل على المواطنين وتعزيز مساهمتهم في سوق العمل.
هذا التحدي في توظيف قوة العمل الوطنية يمثل أهمية في كل بلدان المنطقة، خصوصاً الكويت وقطر والإمارات. وربما تساعد الأوضاع الاقتصادية والإمكانات المالية المحدودة في البحرين وعُمان من تعزيز القدرة على توظيف مواطنين في شكل أفضل، كما أن السياسات المتبعة منذ سنوات في البلدين مكنت من مواجهة تدفق الأيدي العاملة الوافدة.
على حكومات دول الخليج أن تعي أن أسعار النفط لن تتحسن إلى درجة تمكن من اتباع فلسفة الاقتصاد الريعي التقليدية. كما أن المراهنة على تماسك الأسعار حول 50 دولاراً للبرميل في المدى القصير، تواجه تحديات التراجع في أداء الاقتصاد العالمي وتزايد إمدادات النفوط التقليدية والجديدة من مصادر عدة من خارج بلدان المنطقة. وهكذا يصبح التكيّف أمراً مستحقاً لا يمكن إهماله أو المراهنة على تحسن أسعار النفط.
نقلا عن الحياة