كيف تحقق الرؤية 2030 الاقتصاد الذي نُريد؟

12/07/2016 3
د. إحسان بوحليقة

لقرون كان الفقر لنا صديقا، وكان الاقتصاد لأجدادنا طريقا، لا أكل يُرمى ولا وقت يُهدر، ولا يُترك الفقير لفقره ينفرد بهِ، ولا يستأثر الغني بالمال عن أهله وبني عمومته، كانوا يتقاسمون الكسرة، ويفرحون بالتمرة، ويتعاونون في كل أمرهم، يأكلون مما يزرعون من تمر وعيش ودخن وذرة، ومما يصنعون من نسيج وحصر ومعاول. كانت حياتهم شظفا، وما في أيديهم كفافا، الفاقة تدفع بأبنائهم للغربة ليكدحوا ويرسلوا أموالا.

كانت تلك الأيام الخوالي، وضعها ريع النفط في متاهات الذاكرة، رغم أنها هي المرتكز، فالنفط إلى نضوب أو خروج مُنافس عنيد.

وفي تاريخ الشعوب، فمائة سنة أو نحوها هي عبارة عن «فاصل ونواصل». لكننا لا نريدها (أي فترة ريع النفط) فاصلا بين فقرين، فقر أنهك الأجداد، وفقر ينُهك الأحفاد. نريدها فترة تنقلنا من فقرٍ مضى إلى غنى مستمر بتوفيق الله وفضلهِ.

فمنذ أن أُستخرج النفط كان هذا هاجسا، كيف نوظف ريعه لاكتساب أسباب القوة والمنعة اجتماعيا واقتصاديا.

وليس أدل على ذلك من أن الملك المؤسس -يرحمه الله- استقدم في أربعينيات القرن الماضي خبراء أمريكان للنظر في تنمية البلاد، وبالفعل وجه الملك المؤسس بصياغة برنامج تنموي والسعي حثيثا لإنجازه، أما العناصر الرئيسة للبرنامج التنموي فكانت:

1- شواطئ المملكة تزيد على 2000 ميل لكن ليس لدينا موانئ مناسبة. ولذا من المهم بناء ميناء في قرية الدمام، وآخر في جدة لاستقبال البواخر الكبيرة.

2- توفير مياه الشرب لمدينة جدة.

3- توفير مياه الشرب وخدمة الصرف الصحي والطاقة الكهربية لمكة والمدينة.

4- توفير الطاقة الكهربية لمدينة الرياض.

5- مسح لموارد المياه في البلاد، بناء وإصلاح السدود للاستفادة من مياه الأمطار، واستخدام المضخات لجلب مياه الآبار.

6- توفير الرعاية الطبية للمواطنين في أنحاء البلاد.

7- سكة حديد تمتد في مرحلتها الأولى من الرياض إلى الخليج العربي عبر الهفوف، ثم إعادة بناء خط الحجاز، والمرحلة الثالثة لربط هذين الخطين.

8- توسيع خدمة الطيران لتشمل أنحاء البلاد، والاتصال بالدول المجاورة.

9- إقامة مقاسم للهاتف في المدن الرئيسية.

10- إقامة شبكة لاسلكي عبر المملكة وإلى العالم الخارجي.

ورغم تواصل العمل في المشاريع الرائدة، لكن يبدو أن التطورات في قطاع النفط كانت الأهم على الساحة الاقتصادية، ففي العام 1950م اكتمل العمل في خط أنابيب «التابلاين»، وارتفع إنتاج المملكة من النفط بمقدار النصف من 400 ألف إلى 600 ألف برميل يوميا.

وفي مجال البنية التحتية، اكتمل العمل في أرصفة ميناءي جدة والدمام، وجزء من الخط الحديدي بين الرياض والدمام، وتواصل العمل في بناء المطارات. وحتى الآن، وما زلنا نعمل لإكمال البرنامج التنموي الذي وضع أسسه الملك المؤسس، فها نحن نكمل مد الخطوط الحديدية على سبيل المثال لا الحصر.

ويتضح من خلال استعراض عناصر البرنامج، أن أولوية الملك المؤسس كانت توظيف إيرادات النفط لتحقيق التنمية في ربوع المملكة المترامية الأطراف. وليس محل شك أن تلك الأولوية بقيت متقدمة، بالقدر الذي تتيحه الايرادات النفطية وتذبذبها، وتكالب ظروف منطقتنا التي لم تبرحها الانقلابات والحروب والقلاقل.

ومع ذلك بقيت التنمية التحدي الأساس، وقد قنن ذلك التحدي في خطط خمسية متوالية منذ العام 1970.

وتحقق الكثير، وما زال أمامنا الأكثر لتحقيقه، بعد أن تباطأت عجلت التنمية في عقدي الثمانينيات والتسعينيات لتراجع الإيرادات العامة تراجعا كبيرا فتراكم الدين العام، وبدأت مظاهر ذلك التراجع في ظاهرة المدارس المستأجرة تنتشر، وضاقت سعة المستشفيات عن الحاجة، ونقصت مراكز الرعاية الصحية الأولية عن تغطية الأحياء كافة، وعجزت الجامعات عن استيعاب المتقدمين الجدد، وتراجعت وتيرة الاستثمار نسبة للناتج المحلي الإجمالي بما في ذلك تكوين رأس المال الثابت.

بالنسبة للنمو الاقتصادي، وهو مؤشر مهم للازدهار، فقد كان متذبذبا، باعتبار أن للصادرات النفطية سطوة كبيرة على تكوين الناتج المحلي الإجمالي للبلاد، ففي السبعينيات عايشنا طفرة هائلة، وتبعها انكماش في الثمانينيات، وتقلبا في التسعينيات. وبعدها بدأت عوائد النفط تتماسك، وأخذت عجلتا التنمية والنمو تنشطان.

وحاليا، هناك تململ من تراجع إيرادات النفط، ومخاوف من أن ذلك قد يؤثر على زخم الانفاق الرأسمالي للحكومة، الذي يشكل الأساس في زيادة التنمية من جانب والارتقاء بسعة وقابلية الاقتصاد الوطني للنمو بما في ذلك استقطاب تدفقات الاستثمار الخاص المحلي والأجنبي.

لكننا في هذه المرة، اختلفت المعالجة. فقد اتضح إصرار الحكومة على الاستمرار في اتفاقها الرأسمالي ولكن بانتقائية توائم بين قصور الإيرادات من جهة وأهمية الاستمرار في المشروعات التنموية والحيوية لبناء السعة (capacity building) من جهة أخرى. وعلى الرغم من تراجع الإيرادات من النصف الثاني للعام 2014 إلا أن الحكومة واصلت انفاقها التنموي على الرغم من تراجع أسعار النفط، وصدرت ميزانية العام المالي 2015 وفقا لذلك الالتزام.

وفي العام المالي 2016، اتخذت الحكومة قرارات مفصلية لرفع كفاءة الانفاق، وإعادة هيكلية موارد الخزانة العامة لتصبح أكثر تنوعا مع مرور الوقت فتساهم الإيرادات غير النفطية بحصة أكبر عاما بعد عام، وأعادت هيكلية التخطيط للمستقبل، لتصبح طويلة المدى، عبر اصدار الرؤية 2030، وإعادة هيكلة وتوجيه الجهاز التنفيذي للحكومة ليتواءم مع متطلبات الرؤية وأهدافها.

نحن الآن أمام أسئلة جديدة وإجابات لأسئلةٍ لطالما سُئلت، مثل: ما الوسيلة التي سنتبعها للفترة حتى 2030 لإذكاء النمو في القطاعات النفطية وغير النفطية؟ وهل سيتواصل برنامجنا التنموي والانفاق عليه كما سبق، أم سيخضع لمراجعة وتقليص مع كلِ هبوط لأسعار النفط، أم سنتبع خيارا جديدا؟

الآن، لدينا رؤية لخمسة عشر عاما قادمة، ستعلن تفاصيل برامجها تباعا. ومن المتوقع أن ذلك سيؤثر في مناخ الاستثمار تأثيرا جوهريا: فالتزامات القطاع الخاص تتبع توجهات الانفاق العام عموما، واتضاح تلك التوجهات واستقرارها للمدى الطويل يعني إزالة الضبابية وتجنب «المفاجآت»، ولعل ليس من المبالغة القول إن تحسين مناخ الاستثمار ليصبح الأفضل والأكثر تنافسية هو الضمانة -بإذن الله- لتنامي وتيرة الاستثمارات المباشرة للقطاع الخاص المحلي والأجنبي، بما يؤدي إلى تواصل بناء السعة من جهة، وزيادة المعروض من الخدمات على تنوعها، وتوافر المزيد من الوظائف، ومن النمو الاقتصادي.

لكن كيف نعرف إن كان مناخ الاستثمار لدينا مُنافسا وجاذبا؟ بقياس ومقارنة ما يتلقاه اقتصادنا من استثمارات نسبة للناتج المحلي الإجمالي، أو كيف نبقي نسبة الاستثمار للناتج المحلي الإجمالي فوق 30 بالمائة؟

نقلا عن اليوم