(ليس هناك أقوى من فكرة حان وقتها)
فيكتور هوجو
كيف تتخذ الحكومات قراراتها؟ في ظل عصر يوصف بتسونامي المعلومات وتدفق كم هائل من الحقائق أتاحتها الثورة المعلوماتية مُنهية بذلك عصر احتكار المعلومة، ومحطمة فكرة الاختيار بالانطباعات، ومقللة مساحات التأثيرات الشخصية، فأزالت الجدل القائم حول الكيفية التي تتخذ بها الحكومات قراراتها، فأصبحت القرارات مبنية على البراهين (Evidence Based)، فصارت الأمور تدار معلوماتيا بشكل طبيعي للغاية في سياق التطور التدريجي في عمر الدول.
تتشابه حكومات دول العالم الأول في المنهجيات التي تتبعها لاتخاذ القرار المبني على البراهين، حيث تُتخذ القرارات بالاعتماد على الرأي الفني المحايد الذي توفره مراكز الفكر في المقام الأول، ثم يأتي بعد ذلك الاستعانة ببيوت الخبرة في بعض التفاصيل الفنية إذا ما استدعت الحاجة إلى ذلك، إذ أن الدول تجد مخزونا من المهارات الوطنية، والعقل الجمعي الذي تستغني به عن الاستشارات المُكلفة التي لا تضيف إلى الخبرة النوعية لموظفي الدولة، كما أنه من السذاجة الاعتقاد أن القرارات لا تبنى على تأثير اللوبيات السياسية، وضغط الرأي العام فلا توجد دولة في العالم تُستثنى من ذلك، فما هي الآلية التي تضمن اتخاذ قرارات بعيدة عن الاجتهادات الشخصية، وتضمن إشراك أوسع لأطياف المجتمع؟ وكيف ترتقي إلى مستوى أبعد من أن تكون قرارات وليدة اللحظة (Ad hoc)؟ وكيف للحكومات أن تكون مبادرة قبل وقوع المشكلة بعيداً عن دوامة ردود الأفعال؟
هناك صيغ مختلفة للهياكل الإدارية التي تتبناها الدول للمراكز التي تقوم بمهمة دعم اتخاذ القرار، فليس هناك نموذج مثالي مشترك يصلح لجميع الدول نظرا لاختلاف بُنيتها السياسية والتشريعية، إلا أن هناك عوامل نجاح ينبغي الأخذ بها عن إنشاء مثل هذه الوحدات ذات الطبيعة الخاصة، أهمها الاستقلالية عن أجهزة الدولة لضمان الحيادية، وذلك عبر إلحاقها برئاسة الدولة مباشرة، ترتقي مراكز دعم القرار بعد أن تستكمل بنيتها المعلوماتية والبشرية ذات الكفاءة المتميزة إلى أن تصل بمستوى مراكز الفكر (think tank) للحكومات.
التعريف البسيط لمراكز دعم القرار للدول هو منظومة معلوماتية تحليلية، توفر لصانع القرار رأي فني مهني مدعم بالحقائق مستقل عن المؤسسات الحكومية بل وبدائل وسيناريوهات للحلول الممكنة، وتعرضها بالشكل والطريقة المناسبة لصانع القرار، متعدية من أن تكون مجرد أداة للإيجاز والاختصار (briefingmachines) لما ترفعه مؤسسات الدولة لصانع القرار.
إن الاستقلالية الفكرية التي توفرها بيئة العمل بهذه المراكز تضمن تقليل مساحة تسيس التقارير حسب المصالح كما هو شأن جميع المجتمعات مهما ارتقت فيها المنظومة الديموقراطية.
تضمن الاستقلالية الفكرية البعد عن الكثير من الظنون التي لا واقع لها من الصحة فيما ما يصح رفعه من تقارير وما لا يصح، وما يرضي وما لا يرضي، لذا نجد في مراكز دعم القرار التي تتمتع بحيادية عالية خانة في أسفل التقرير مخصصة للرأي الشخصي تُفصل تماما عن الرأي المهني. تفرض جميع هذه المعطيات اليوم نفسها على الحكومات ليكون لها مؤسسة فكرية مستقلة تتخذ العلم طريقا ومصالح الدولة غاية فتضع أمام الصانع القرار الحقائق من أبعادها المختلفة والبدائل بأوجهها المتعددة، فيتخذ ما يراه من القرارات الأنسب والأصلح.
لماذا تتبنى مراكز دعم القرار فلسفة مراكز الفكر؟ لأنها مبنية على حرية عرض الأفكار والآراء advocacy) (تعمل متعدية السقوف والقيود التقليدية حيث تجتمع وجهات النظر المتضادة تحت سقف واحد لإيجاد بيئة تحفز الدفاع عن وجهات النظر فتكون الأفكار موضع تحد لإثبات صحتها مما يعزر ثقافة المواجهة والشفافية فلا تغير يحدث ضمن بيئة تحاول تجميل الواقع.
إن المعلومة قوة، لكن حتى يكون لها تأثير يجب أن توضع في القالب الصحيح، وان تصل لصانع القرار في الوقت المناسب، وفي هذا الصدد فقد اتخذت السلطنة خطوة مهمة نحو استكمال البنية الأساسية المعلوماتية، وتعزيز مستوى الشفافية والإتاحة وهما من أهم ركائز إنشاء مراكز دعم القرار بإنشاء المركز الوطني للإحصاء والمعلومات في عام 2012.
تتدرج مراحل تطور الأجهزة الإحصائية إلى أن تصل إلى الاستقلالية التامة شيئا فشيئا فإذا ما نظرنا لنماذج الدول المتقدمة فإن جهاز الإحصاء يتبع رئاسة الدولة مباشرة لضمان حيادية البيانات التي تقدم الصورة المعلوماتية لما قامت بإنجازه السلطة التنفيذية، لذا عمدت المدارس الفكرية بتنوعها على فصل أجهزة الإحصاء عن السلطة التنفيذية، ورفد مجالس إداراتها بخبرات متنوعة أهمها مستخدمي الإحصاءات المختصين، وخبراء الإحصاء فهم أعلم بمدى جودتها وطرق الارتقاء بالعمل الإحصائي.
مراكز دعم القرار هي بمثابة الجسر الذي يربط ما بين الحكومة والمجتمع، تمهيدا للاستفادة من وجهات النظر الأكاديمية والفنية المتخصصة، وإذا ما نظرنا إلى الهيكل الإداري للدولة اليوم، وبحثنا في سبل دعم صانع القرار فإننا نجد إنشاء وحدة التفكير بديوان البلاط السلطاني نقلة نوعية هيأت الأرضية نحو رفع مستوى آلية إشراك المجتمع في عملية اتخاذ القرار ظهرت جلية في جلسات الشراكة بين القطاع العام والخاص PPP أثمرت عن مبادرات وقرارات مهمة منها على سبيل المثال وليس الحصر الصندوق الوطني للتدريب.
إن هذه الخطوات التي اتخذتها السلطنة تمهد وبشكل سلس لإنشاء جهاز لدعم اتخاذ القرار، وانطلاقا من مبدأ البدء من حيث انتهى الآخرون فجدير بالذكر الدراسة التي أجرتها الحكومة الأسترالية لمقارنة شملت اكثر من 15 جهازا لدعم القرار الحكومي بعنوان “مراكز فكر حكومية”. تقوم أجهزة التخطيط بدور مراكز الفكر للحكومات، وفي هذا الصدد أعلن رئيس الوزراء الهندي مودي عام 2014 تغيرا راديكاليا جوهريا بتغيير الفكر التقليدي لمركز التخطيط الهندي(Planning Commission of India) الذي تم تأسسيه عام 1950 حيث كان وجود عدد من الوزراء في هذا المركز قد اسهم في إعطائه ثقلا سياسيا، إلا أن النموذج الجديد لهذه النوعية من المراكز يعتمد على تدعيمه بالخبرات المتنوعة كالتكنوقراط، خبراء التنمية، وأهل الخبرة والاختصاص في مختلف المجالات، والابتعاد قدر الإمكان من الفكر البيروقراطي والتقليدي متبنيا في ذلك النموذج الصيني للمركز الوطني للتنمية وإعادة الهيكلةChain’s National Development & Reform Commission.
إن مراكز دعم القرار لها دور في تنمية القدرات الوطنية في الرصد والتحليل وإثراء صناع القرار بأفكار جديدة تضيف إلى معرفتهم بالأمور وهي بالون اختبار لكثير من الأفكار التي متى ما نضجت تصبح سياسة وطنية تعتمدها الجهات الرسمية وتكون على دراية أكثر بطبيعة معوّقاتها، فالحلول الخارجية المُعلبة للمؤسسات العالمية وما يسمى ببيوت الخبرة لا تأخذ بالضرورة بالحسبان ظروف بلد ما بتفاصيلها السياسية والاجتماعية.
كما تلعب هذه المراكز دورا مهما في رسم السياسات وتغذية أصحاب القرار بالمعلومات والدراسات المطلوبة لاتخاذ القرارات المناسبة إلى جانب فائدتها في دراسة تبعات هذه القرارات وانعكاساتها وهو ما تتعدى إمكانيات دوائر المتابعة التقليدية.
إن النظرة الشاملة لمراكز دعم القرار اثر انصباب جميع المعلومات فيها تقوم بدور في غاية الأهمية إذا تساعد على تحديد أولويات القضايا التي يجب مناقشتها وعلاجها على مستوى الدولة، وأيها اكثر إلحاحا في فترة زمنية ما، فهل هي على سبيل المثال قضية إصلاح سوق العمل، أم هيكلة الاقتصاد أم هيكلة الجهاز الإداري للدولة ؟ وأين هي عقدة الخيط اذا حللتها انحللت بقية العقد؟
فهل هناك وقت أنسب من اليوم حتى يكون للسلطنة مركز لدعم صانع القرار؟
وللموضوع بقية..
نقلا عن جريدة عُمان