دور الاستثمارات العربية في الاقتصاد البريطاني ضعيف، رغم الضجة الإعلامية التي تصاحب هذه الاستثمارات هناك.
وتشير بيانات الاستثمار الأجنبي في بريطانيا إلى أنها ثالث بلد في العالم جلبا للاستثمار الأجنبي بعد الولايات المتحدة والصين، وأن الاستثمارات العربية ليست صغيرة فقط مقارنة باستثمارات الدول الأخرى، بل أقل فعالية من ناحية إنشاء شركات ووظائف جديدة وتسجيل براءات اختراع.
كما تشير إلى أن أغلب الاستثمارات الأجنبية في بريطانيا تأتي من الولايات المتحدة والصين والهند والدول الأوروبية، وأن جزءا كبيرا منها يركز على إنشاء شركات جديدة أو توسيع الشركات الموجودة، وأن أغلبها يركز على القطاعات التي لا تعني المستثمرين العرب مثل العلوم والتكنولوجيا والفضاء والأدوية والسيارات والخدمات المالية.
وتركز الاستثمارات العربية على قطاعات العقارات والفنادق وتجارة التجزئة، والنفط إلى حد ما، مع استثمارات محدودة في القطاع المالي. وأهم خاصية لهذه الأصول أنها موجودة سابقا ويقتصر الاستثمار غالبا على تغيير الملاك.
وتشير البيانات إلى أنه في قائمة أكبر عشرين دولة في خلق الوظائف في بريطانيا لا توجد دولة عربية واحدة.
وهذه الحقائق تعني أن أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على الاستثمار العربي بشكل عام والخليجي بشكل خاص في بريطانيا، يختلف اختلافا كثيرا عن أثره على استثمارات الدول الأخرى، كما أن الأثر السلبي لفشل الاستثمارات العربية سيكون أقل من أثر فشل استثمارات الدول الأخرى.
وهذا يعني أن اتجاهات الاستثمار العالمية للخروج من بريطانيا قد لا تتوافق مع اتجاهات الاستثمارات العربية.
فأثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي على شركة تملك برجا تجاريا ضخما يختلف تماما عن شركة تقوم بتصنيع محركات السيارات لتصديرها إلى باقي دول الاتحاد الأوروبي مثلا، حيث ستتأثر محركات السيارات بالحدود والرسوم الجمركية والضرائب التي سيعاد فرضها.
وكانت بعض الدراسات قد أوضحت أن خروج بريطانيا سيخفض الاستثمار الأجنبي المباشر فيها بما بين 20% و30%، غير أنه بناء على ما سبق قد يكون انخفاض الاستثمارات العربية أقل من ذلك.
ولكن بمقاييس عالمنا العربي هناك استثمارات عربية ضخمة في بريطانيا ولا سيما في لندن، أغلبها في قطاعات العقارات والفنادق وتجارة التجزئة. وتعد السعودية أكبر مستثمر، تليها الإمارات ثم قطر ثم الكويت.
ومثلت استثمارات الإماراتيين 20% من كل عمليات الشراء بهدف التأجير في لندن عام 2015.
كما استثمرت قطر في أهم المعالم الكبيرة في لندن، بما في ذلك محلات هارودز الشهيرة ومحلات سينزبري وبنك باركليز وبعض أهم الأبراج في لندن وغيرها من العقارات.
ويلاحظ على اتجاهات الاستثمارات العربية في بريطانيا وفي لندن تحديدا ارتباطها شبه التام باتجاهات أسعار النفط. وهذا يقودنا إلى نتائج هامة:
الأولى أن الاستثمارات العربية في بريطانيا انخفضت بشكل كبير منذ عام 2015 بسبب انخفاض أسعار النفط، وبالتالي فإن أثر خروج بريطانيا على هذا الاتجاه ضعيف.
والثانية أنه ليس هناك سيولة كافية في هذه الدول لاقتناص الفرص في بريطانيا بعد انخفاض الأسعار وقيمة الجنيه الإسترليني.
والثالثة أن الأزمة الاقتصادية والمالية التي نتجت عن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تعني بقاء أسعار النفط في مستويات منخفضة نسبيا، الأمر الذي يجبر بعض المستثمرين والصناديق السيادية على بيع بعض الأصول في بريطانيا.
النتيجة الأخيرة مفادها أن بيع هذه الأصول مرتبط بالوضع الاقتصادي والمالي للمستثمر في البلد الأم أكثر من الوضع الاقتصادي في بريطانيا.
وبالنظر إلى الاستثمارات العربية في ظل قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فإن ما يهم هو الإجابة عن هذين السؤالين: ما أثر خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في الاستثمارات العربية الحالية؟ وما أثر ذلك على الاستثمارات المستقبلية؟
الأثر في الاستثمارات العربية الحالية
سجلت الاستثمارات العربية خسائر كبيرة في الأيام الماضية من ناحيتين: الناحية الأولى أن قيمة الأصول انخفضت، والثانية أن قيمة الجنيه الإسترليني الذي تقيّم به هذه الأصول انخفضت بشكل كبير.
وتشير البيانات إلى انخفاض أنشطة شراء العقارات منذ بداية العام الحالي وإلى أنها انخفضت أكثر مع التجهيز للاستفتاء الأخير حيث انخفضت قيمة العقارات بما بين 5% و10% في الشهرين الأخيرين، الأمر الذي جعل شركات العقارات تقدم عقودا للمستثمرين الأجانب المتخوفين من احتمال خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي تحتوي على فقرات تقضي بإلغاء العقد بدون أي خسائر للمستثمر إذا تم التصويت لصالح الخروج من الاتحاد.
وقدّر بعض المختصين خسائر الاستثمارات العربية بـ45 مليار جنيه إسترليني (60 مليار دولار) بسبب الأزمة الأخيرة.
المشكلة أنه يمكن نظريا تحسين قيمة الاستثمارات بضخ المزيد من السيولة والاستثمارات، ولكن سواء كان الحديث عن استثمار الشركات في حقول نفط بحر الشمال أو استثمار الصناديق السيادية العربية في عقارات لندن، أو في تجارة التجزئة، فإنه من الواضح أن الجميع قرر التوقف عن الاستثمار مؤقتا حتى تتضح الأمور.
ويزيد الأمور تعقيدا كون قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي سابقة لم تحصل من قبل، لذلك فليس هناك خبراء ودراسات في هذا المجال تساعد المستثمرين على اتخاذ الخطوات الصحيحة.
ومن هذا المنطلق فإنه ليس هناك حل سوى الترقب والانتظار، في ظل مخاوف من المجهول.
المشكلة أن بعض الصناديق السيادية اشترت عقارات بأسعار عالية في فترة ارتفاع أسعار النفط وستعاني من أمرين في ظل الأزمة الحالية، الأول بيع هذه العقارات، والثاني بيعها بأقل الخسائر.
لكن أسواق العقار وبعض المحلات الفاخرة ستستفيد كثيرا من انخفاض قيمة الجنيه الإسترليني مقابل العملات الخليجية، وستظل لندن الوجهة المفضلة لكثير من العرب بشكل عام والخليجيين بشكل خاص، خاصة أن انخفاض قيمة العملة البريطانية سيجعل لندن أرخص بشكل ملحوظ.
وهناك من يرى أن خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي والعداء بين الدول الأوروبية والإنجليز سيجعل بريطانيا تقفز إلى أحضان الروس والصينيين والعرب، الأمر الذي يعزز فكرة أن السياحة العربية وغيرها في بريطانيا قد تزيد.
إلا أن هناك من يقول إن التصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي فيه الكثير من العنصرية تجاه العرب، الأمر الذي قد ينعكس سلبا ليس على المهاجرين فقط، بل على السياح أيضا.
وإذا كان الأمر كذلك فإنه من المنطقي أن تنسحب الفكرة نفسها على الاستثمارات العربية في بريطانيا، خاصة المتعلقة بالأماكن والعلامات التجارية المشهورة التي تعتز بريطانيا بها.
وفي ظل الظروف الحالية فإنه من المنطقي أن يعاد تقييم المحافظ والاستثمارات الحالية بناء على عوامل عدة أهمها المخاطرة, وأسعار الصرف الجديدة، وبالتالي تغيير حجم هذه الاستثمارات.
ولعل أكبر خطر هو ذلك الذي يواجه الاستثمارات في البنوك البريطانية بالدرجة الأولى، تليها الاستثمارات الصناعية، ثم تجارة التجزئة، وأقلها العقارات.
خلاصة القول أن الوضع يستدعي إعادة تقييم هذه الاستثمارات وهو ما قد ينتج عنه إعادة هيكلتها وربما تقليصها.
الأثر في الاستثمارات المستقبلية
الاستثمارات العربية المستقبلية في بريطانيا ترتبط ارتباطا تاما بارتفاع أسعار النفط. فإذا ألقت الأزمة الحالية بظلالها على أسعار النفط وأبقتها منخفضة لفترة أطول من المتوقع، فإنه لا يتوقع عودة الاستثمارات العربية بقوة إلى بريطانيا.
أما إذا كان الأثر على أسعار النفط مؤقتا وتحققت التوقعات القائلة بأن الأسعار سترتفع إلى حوالي 90 دولارا خلال الأعوام الثلاثة القادمة، فإنه يمكن القول إن الأزمة الحالية تشكل فرصا استثمارية طويلة المدى في مجال العقار إذا رحلت بعض البنوك والشركات عن لندن، أو خفضت وجودها، واستمر انخفاض الجنيه الإسترليني، وانخفضت معدلات الهجرة إلى بريطانيا.
أما على المديين القصير والمتوسط فإن انخفاض الجنيه الإسترليني واليورو سيشجع السياحة في لندن، الأمر الذي يؤثر إيجابيا على أسواق العقار.
وقد تكون الأمور على المديين المتوسط والطويل أفضل بكثير مما ذكر إذا تبنت الحكومة البريطانية والبنك المركزي البريطاني سياسات مالية ونقدية محفّزة تتضمن إعفاءات ضريبية وتخفيض أسعار الفائدة وأشكالا مختلفة من الدعم والإعانات.
عندها قد تتدفق الاستثمارات من كل حدب وصوب للاستفادة من هذا الوضع. وبناء على هذا فإنه يمكن القول إن ارتفاع أسعار النفط ووجود فرص مغرية مع سياسات التحفيز سيزيد من الاستثمارات العربية في بريطانيا على المديين المتوسط والطويل.
البنوك المركزية واستثماراتها
عادة ما تملك البنوك المركزية عملات أجنبية وسندات حكومات أجنبية وأصولا في دول مختلفة، وهذا يعني أن البنوك المركزية العربية وخاصة الخليجية، سجلت خسائر بسبب احتياطياتها النقدية من العملات التي عانت من انخفاض حاد في الأيام الأخيرة خاصة الجنيه الإسترليني واليورو، كما أن أصولها في بريطانيا انخفضت قيمتها.
لهذا فإنه من المنطقي أن تقوم البنوك المركزية العربية، ولا سيما الخليجية منها، بإعادة تقييم احتياطياتها من النقد الأجنبي وأصولها المقيمة بالجنيه الإسترليني واليورو، خاصة بعد انخفاض الإسترليني إلى أقل مستوى له خلال ثلاثين عاما.
من هنا نجد أن هذه البنوك المركزية في سباق مع الزمن للتخلص من العملات والسندات والأصول التي يتوقع أن تستمر قيمتها في الانخفاض.
المشكلة أن هذا التصرف من البنوك المركزية يؤدي إلى مزيد من الانخفاض في قيمة العملات والأصول التي ترغب في التخلص منها، وارتفاع في العملات والأصول التي ترغب في شرائها.
لكن وضع البنوك المركزية الخليجية أفضل من غيرها بسبب ربط أغلب العملات الخليجية بالدولار من جهة، وبسبب الاستثمار في سندات الخزانة الأميركية من جهة أخرى.
إن ما حصل في أوروبا يثبت صحة سياسة بعض البنوك المركزية الخليجية، خاصة مؤسسة النقد السعودي، فيما يخص الإصرار على الاستمرار في ربط الريال بالدولار من جهة، والاستثمار في السندات الأميركية من جهة أخرى.
فلو رضخت المؤسسة لرأي القائلين بالانفكاك الكلّي عن الدولار، أو ربط الريال بسلة من العملات، أو الاستثمار في أصول بريطانية بدلا من السندات الأميركية، لكان الوضع في دول الخليج أكثر سوءا من بريطانيا اليوم، ولخسر مؤشر الأسهم السعودي أكثر من 50% من قيمته، بناء على حسابات الكاتب.
وهذا ينطبق على البنوك المركزية في الخليج التي اتبعت النهج نفسه. لو تم فك ارتباط الريال بالدولار لانخفض بداية بسبب انخفاض أسعار النفط، ثم انخفض مؤخرا بسبب انعكاسات الأزمة الأوروبية على اقتصادات دول الخليج.
ولو كان مرتبطا بسلة، فإن قيمته ستنخفض لأن العملات التي هبطت مقابل الدولار ستمثل حوالي 60% من السلة أو أكثر.
إن أهم ما يميز الاستثمار في السندات هو الحفاظ على رأس المال، وأهم ما يميز الاستثمار في عقارات لندن هو تحقيق أرباح عالية، ولكن بمخاطرة عالية أيضا قد لا تحافظ على رأس المال.
إن ما نراه الآن هو تدمير لرأس المال بسبب انخفاض أسعار العقارات وانخفاض سعر الجنيه الإسترليني.
والآن نعود إلى سؤال العنوان: هل تبقى لندن مقر الاستثمارات العربية؟ الجواب نعم.
قد تنخفض الاستثمارات على المدى القصير، وستسجل خسائر كبيرة، ولكنها ستعاود الصعود على المديين المتوسط والبعيد بسبب ارتفاع أسعار النفط، وتوفر فرص استثمارية مغرية، وتبني الحكومة والبنك المركزي سياسات جذابة للاستثمار الأجنبي.
نقلا عن الجزيرة نت