الأسبوع الماضي نشرت الصحف أحدث دراسة أجرتها الهيئة الوطنية لمكافحة الفساد (نزاهة)، وكانت الدراسة أشارت بإصبعها إلى من هم المتسببين والمستفيدين من انتشار ظاهرة الفساد المالي والإداري، وعلى رغم ما حملته الدراسة من بيانات ومعلومات وإشارات، توقعت بعد نشر الدراسة أن أقرأ تعليقاً أو رداً من أي من الإدارات الحكومية، حتى لو نفي من متحدثها الإعلامي أو المصدر الرسمي، إذ اعتدنا سماع بيانات النفي من الإدارات الحكومية كل ما نشر انتقاد أو توجيه لوم لها.
ومن أهم ما توصلت إليه الدراسة التي أجريت في ثلاث مناطق بالسعودية وهي الرياض والشرقية ومكة، أن الواسطات أكثر أنماط الفساد انتشاراً في القطاع الحكومي الخدمي، ثم اللامبالاة بالعمل في المرتبة الثانية، تليها الرشوة، فيما جاء الاختلاس والتزوير في ذيل القائمة كأقل أشكال الفساد انتشاراً.
صراحةً أكثر الجهات التي توقعت أنها سترد على دراسة «نزاهة» هي وزارة البلديات والقرويات، إذ إنه منذ عام يتداول خبر اختفاء 500 حديقة في جدة، استطاع سماسرة ومسؤولون متنفذون إدخالها ضمن مساحات مخططات سكنية، وبعضها ذهبت ضمن تطبيق منح، ومنها حدائق ومساجد ومرافق حكومية، بقدرة قادر تحولت إلى مخططات وبيعت أو طبقت ضمن المنح، ومنذ أكثر من عام ولم نسمع أو نقرأ أي تعليق من أي مسؤول أو ينفي هذه الاتهامات، فتوقعت أن أمانة جدة ترد وتنفي هذه الدراسة، فطالما سكتت ولم ترد فمن الأفضل أن نبقى ساكتين، فمشكلات البلديات والتجاوزات التي فيها يعرف عنها القاصي والداني.
من الجهات الحكومية التي توقعت أن تبادر لنفي الدراسة إدارات الجوازات، فهذه الإدارة على رغم ما لها من جهود إلا أن هناك عمالة وافدة استطاعت أن تمرر الكثير من الخدمات وتنجز أعمالها من دون أي تعقيد، حتى العمالة غير النظامية، تستطيع أن تدبر نفسها.
بعد نشر الدراسة بصراحة أنا خفت أن وزارة التعليم سترد وبقوة ما جاء في الدراسة أن ضعف الوازع الديني والأخلاقي شكل نسبة 83 في المئة من أسباب الفساد في السعودية، فهذا اتهام مباشر لمواد التعليم، لاسيما مواد الدين وامتهان للمواد وأيضاً لأسلوب التعليم، وتوقعت أن يصدر رد مجلجل من الوزارة، أما أن يحتل ضعف الوازع الديني نسبة عالية، فهذا بالفعل أمر مقلق.
الدراسة كانت صادمة للمجتمع السعودي، وهناك جهات عدة عليها أن تراجع حساباتها وبرامجها وأسلوب التعامل، حتى تنشئ من جديد مجتمعاً يخاف الله.
بحسب الدراسة «الواسطة» جاءت أكثر أنماط الفساد انتشاراً في القطاع الحكومي الخدمي، بنسبة 27 في المئة، ثم اللامبالاة بالعمل في المرتبة الثانية بنسبة أكثر من 19 في المئة، تليها الرشوة، فيما جاء الاختلاس والتزوير في ذيل القائمة كأقلّ أشكال الفساد انتشاراً.
وأشارت الدراسة، وفقاً لنتائج العينة إلى أن ضعف الوازع الديني والأخلاقي، هو أحد أهم الأسباب التي أسهمت في انتشار الفساد المالي والإداري في القطاع الحكومي الخدمي، يليه تباعاً عامل ضعف أداء الجهات الرقابية والقضائية، والتساهل في تطبيق العقوبات النظامية، ووجود أنظمة إدارية ومالية معقّدة وقديمة، وغياب الشفافية (عدم الإفصاح عن المعلومات المتعلّقة بإجراءات وقرارات الجهات الحكومية الخدمية)، وحصل عامل القبول الاجتماعي لبعض مظاهر الفساد على أقلّ نسبة.
وبيّنت أن التجربة الشخصية تُعدّ المصدر الأكبر لمعلومات المبحوثين حول ظواهر الفساد في القطاع الحكومي الخدمي، ويمثل ذلك ما نسبته 41.5 في المئة من العينة، وهو ما يعطي دلالة على معاناة العينة من الفساد شخصياً، أكثر من كونه حديثاً يتم تداوله في المجالس ووسائل التواصل الاجتماعي، أما المصدر الثاني للمعلومات حول ظواهر الفساد فكان حديث المجالس بنسبة 26.2 في المئة، ثم وسائل الإعلام بنحو 16.7 في المئة، وأخيراً شبكة الإنترنت وشبكات التواصل الاجتماعي.
ورأت 29 في المئة من عينة الدراسة أن ممارسات الفساد تحدث في المستويات الإدارية الوسطى، إذ تتركّز مُعظم العمليات الإدارية التنفيذية، بينما يعتقد نحو 23 في المئة أن التجاوزات المالية والإدارية تحدث في المستويات الإدارية العليا، وبالمقابل يعتقد قلة من المبحوثين أن التجاوزات تحدث في المستويات الإدارية الدنيا.
بعد أكثر من أربع سنوات من تأسيسها وبعد انتقادات واسعة لأعمالها وأدائها، خرجت علينا «نزاهة» بهذه الدراسة في وقت تحتاجه القيادات العليا في البلاد، فهي تستعد لتنفيذ الرؤية 2030 وما يتطلبه من مسؤولين أكفاء.
من الضروري أن نمنح «نزاهة» صلاحيات أوسع لاستجواب الجهات الحكومية وقيادييها، وأيضاً تمنح صلاحيات في إصدار توصية في عزل أي مسؤول تشك في ذمته. هذه المرة رمت «نزاهة» الكرة في ملعب منتقديها.
نقلا عن الحياة