كانت الحكمة السائدة في الماضي في أدبيات الأسواق المالية هي أن من شأن ارتفاع الفوائد أن ترفع أسعار الأسهم الحقيقية وحرارة نشاطها، وبالتالي فان التوقعات المستقبلية التضخمية - مع حياد العوامل الأخرى - كانت تعتبر بحكم المؤثرات الايجابية. وكانت القاعدة العامة ان التضخم مؤثر ايجابي على أسعار الأسهم مستقبلا، شأنه شأن، أي تأثير للتضخم على أسعار الموجودات الحقيقية كالأراضي والعقارات.
أما الأدبيات الحديثة والمعاصرة، فقد وصلت إلى نتيجة عملية غير متفقة بالضرورة مع وجهة النظر السابقة، وقد تكون معاكسة لها تماما. ومؤدى هذه النتيجة ان التوقعات التضخمية قد تخفض أسعار الأسهم، أو على الأقل، تكون محايدة إزاءها، حيث إن التضخم والأسعار الحقيقية للأسهم يسيران إما باتجاه معاكس، أو باتجاه متوازن، ولكن لا يسيران حتما باتجاه واحد. بمعنى أن ارتفاع حدة معدلات التضخم لا يؤدي إلى ارتفاع أسعار الأسهم الحقيقية، وانما يخفضها أو لا يمارس أي تأثير عليها.
وحاليا تمر البورصات الخليجية بفترة تقلبات نتيجة لعوامل مباشرة ومنظورة مثل أوضاع سوق النفط وأرباح الشركات وعوامل غير منظورة رغم أهميتها مثل رفع سعر الفائدة والارتفاع التدريجي للتضخم نتيجة رفع الدعم عن الطاقة والسلع. لكن بالرغم من ذلك فان أداء البورصات الخليجية مرتبط حاليا بالعوامل الأولى أكثر مما هو مرتبط بالعوامل الثانية، مما يجسد من الناحية العملية العودة للعلاقة القديمة ما بين الضغوط التضخمية وارتفاع أسعار الفائدة من جهة وما بين أسعار الأسهم من جهة أخرى. كما يمكن القول إن تأثر البورصات الخليجية بالتضخم وأسعار الفائدة بشكل طردي يعود لكونها لا تتصف بالعمق المالي الكافي.
وموضوع غياب العمق المالي للبورصات الخليجية، أي عدم اتسام أغلبها بالسعة والتنوع والحجم، كما يلعب في الوقت الحالي دورا سلبيا في استجابتها لعوامل الاقتصاد الحقيقية، لعب أيضا في الماضي هذا الدور. فقد تذبذبت أسعار الأسهم في هذه الدول واتجهت نحو الارتفاع الكبير وغير المبرر خلال نهاية السبعينيات وبداية الثمانينيات مع زيادة الموارد المالية وتوسع السيولة المالية التي رافقها ارتفاع معدلات التضخم (أزمة سوق المناخ الكويتي).
ولكن هناك سؤالا مهما يطرح نفسه: إذا كانت البورصات الخليجية ترتبط ايجابا بالسياسة النقدية الانكماشية (ارتفاع أسعار الفائدة)، فما هي صورة العلاقة المعاكسة، أي ما هو تأثير الأسواق المالية ذاتها، وبصورة خاصة سوقا الأسهم والسندات، على السياسة النقدية ذاتها؟
تتوخى السياسة النقدية، التأثير على الطلب الفعلي من خلال التأثير على حجم الائتمان والسيولة العامة. وقد أعرب عدد من الباحثين الاقتصاديين عن شعورهم بان ارتفاع أسعار الأسهم والسندات، بصورة عامة، يؤدي بدوره إلى ازدياد الطلب على النقود، وبالتالي يؤدي إلى ضرورة تعميق جهود السلطة النقدية في السيطرة على الطلب الفعال، لا سيما اذا كان ارتفاع أسعار الأسهم والسندات ارتفاعا حادا ومستمرا، أو إذا انه لا يستند إلى مبررات حقيقية كامنة.
فاذا كان الأمر كذلك، فان السياسات الناجعة النقدية يجب أن تأخذ بالاعتبار تأثيرات أسعار الأسهم التضخمية على حجم الطلب على النقود. ولا يعني هذا، بطبيعة الأمر، ان تحاول السلطة النقدية التدخل المباشر أو غير المباشر في تحركات الأسواق المالية لكبحها أو تنشيطها. ولكنها قد تعني ضرورة اهتمام السلطة النقدية بتطورات الأسواق المالية ومتابعتها، ومحاولة التصدي للعوامل الكلية Macro التي تؤثر على تحركات الأسواق المالية في المدى المتوسط والطويل، أو على العوامل غير السوقية التي تحاول احيانا التدخل في تفاعلات الأسواق العادية.
ان السياسة النقدية، التي تعتمد سعر الفائدة أساسا، والسياسة المالية، التي تعتمد الأوراق المالية المتعددة الآجال أساسا، تمارس دورها التنموي الكبير بقدر ما تتيح من تمويل إنمائي عبر مؤسسات الوساطة الادخارية والاستثمارية. فالتمويل المصرفي الموجه عبر الائتمان قصير الأجل، يظل عاجزا عن تلبية الحاجة إلى التمويل المتوسط والطويل الأجل الذي يغذي العملية الإنتاجية وبناء هياكلها، وذلك على الرغم من توجه المصارف في العقود الأخيرة إلى التوسع في التمويل المتوسط الأجل عن طريق مصارف الأعمال والقروض المجتمعة.
وإذا افترضنا ان الحد الأدنى الذي يجب ان يتوفر كبنية تحتية مالية، لاي بلد، هو جهاز مصرفي متطور نسبيا وسوق لرأس المال مؤلف، على الأقل، من مصارف تجارية وسوق أسهم نشط، بالإضافة إلى قاعدة من مؤسسات التمويل المتخصص (بنوك للتمويل الإنمائي المتوسط والطويل الأجل)، فضلا عن مؤسسات ادخار متنوعة، كشركات التأمين ومؤسسات التقاعد والضمان الاجتماعي، نقول اذا افترضنا هذا الحد الأدنى الذي نعتبره المفهوم الضيق للبنية المالية التحتية ضمن مفاهيم الأنظمة المالية الدولية الحديثة، فاننا نلاحظ أن الدول الخليجية التي يتوفر لها هذا الحد الأدنى لا تزال تشكو من نقاط ضعف وثغرات عديدة في ما يتوفر لها من مؤسسات بنية تحتية.
ان إصلاح البنية المالية التحتية التي قررت ان تتوجه نحو إصلاح مالي شامل يعتمد اقتصاد السوق، يجب أن يمر عبر مجموعتين عامتين من مجموعات التطوير، الأولى هي مجموعة الإصلاح التشريعي، والأخرى هي مجموعة الإجراءات الإصلاحية.
بالنسبة للمجموعة الأولى يتطلب الإصلاح المالي للبنية المالية التحتية جملة تشريعات تتناسب والتطورات الواسعة والعميقة في الهياكل المالية وأبعاد نشاطاتها وخاصة توسيع وتنويع وزيادة حجم البورصات من خلال تأسيس البورصة الخليجية الموحدة وإقامة المزيد من البورصات مثلا للبترول والذهب والمعادن والعقارات وتأسيس المزيد من المصارف ذات المهام الشاملة. أما بخصوص المجموعة الثانية والخاصة بالإصلاح الإجرائي، فهي تتطلب استكمال الإجراءات التنفيذية، على مستوى السلطة النقدية، لتحرير أسواق الفوائد من التحديد والتوجه المباشر من السلطة النقدية ومن اية تشوهات في سوق الفائدة ناتجة عن التمييز القطاعي أو الداعم لمعدلات الفائدة وإقرار وترسيخ اعتماد أداة السوق المفتوحة كمحرك أساسي للسياسة النقدية.
نقلا عن اليوم