تمر أسواق النفط حاليا بمرحلة مفصلية بعد هبوط أسعار النفط بشكل كبير منذ الربع الرابع من عام 2014.
وعلى الرغم من أن هناك العديد من العوامل التي تحدد شكل أسواق النفط العالمية في المستقبل مثل النمو الاقتصادي العالمي والتطور التكنولوجي والعوامل السياسية والبيئية، فإن إستراتيجية السعودية الجديدة ستكون إحدى أهم هذه العوامل بسبب انتهاج سياسة الحصة السوقية، وتخصيص جزء من شركة النفط الوطنية السعودية "أرامكو"، وجعل أرامكو شركة مستقلة، وتركيز السعودية على عمليات التكرير للاستفادة من القيمة المضافة من جهة، وتأمين أسواق مستمرة لنفطها من جهة أخرى.
هددت ثورة النفط والغاز الأميركية المصالح الإستراتيجية السعودية في أربعة مجالات: النفط الخام، والمنتجات النفطية، والسوائل الغازية، والبتروكيمياويات.
وفي الوقت الذي كان التهديد في مجال المنتجات النفطية والسوائل الغازية والبتروكيمياويات مباشرا، لم يكن الأمر كذلك في مجال النفط الخام حيث كان التهديد غير مباشر بسبب اختلاف نوعية النفط المنتج في الولايات المتحدة عن نوعية النفط الذي تستورده الولايات المتحدة من السعودية.
ونتج عن زيادة إنتاج النفط الأميركي تخفيض واردات النفط الأميركية من بعض الدول الأفريقية بمنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) مثل أنغولا ونيجيريا والجزائر، وهي الدول التي تصدر النفط الخفيف الحلو.
وحاولت هذه الدول التعويض عن خسارتها بالبحث عن أسواق جديدة، الأمر الذي أدخل دول أوبك في منافسة طاحنة مع بعضها -خاصة في شرق آسيا- نتج عنها تبني السعودية سياسة زيادة الإنتاج وتخفيض الأسعار بهدف وقف الإنتاج في الأماكن العالية التكاليف.
في ظل هذا الوضع التنافسي، كان منطقيا أن تفشل أي جهود من قبل الدول في أوبك وخارجها لتخفيض أو تجميد الإنتاج، خاصة في ظل رفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، ومحاولة العراق زيادة إنتاج النفط.
ثم جاء اجتماع الدوحة ليؤكد حقيقتين: أن جميع منتجي النفط يعانون معاناة كبيرة من انخفاض أسعار النفط، وأن أقل المستفيدين من تجميد الإنتاج هي السعودية، خاصة أن هناك قناعة لدى المحللين والخبراء أن إيران والعراق لن تلتزما بأي تجميد، حتى لو وافقتا على ذلك في اجتماع الدوحة.
وفشل اجتماع الدوحة يؤكد أمرين مؤثرين في مستقبل أسواق النفط: أن السعودية كانت وما زالت وستبقى اللاعب الرئيس في أسواق النفط العالمية، وأن السعودية ليست بحاجة إلى أوبك بعد اليوم.
التغير السعودي
هناك تغير كبير شهدته السعودية في العامين الأخيرين، ومن أهم مظاهر هذا التغير هو العلنية في المواقف السياسية والسياسات الخارجية والاقتصادية، بعد أن كانت هذه السياسات محافظة وغالبا ما تتم في نوع من السرية والكتمان.
هذا يعني أن السعودية ليست بحاجة إلى غطاء لسياساتها عن طريق تمريرها عبر أوبك. إن السعودية لم تعد بحاجة إلى أوبك، إلا أن المشكلة أن أوبك لا شيء من دون السعودية.
لهذا يمكن القول إن السعودية أطلقت رصاصة الرحمة على أوبك في اجتماع الدوحة. هذا لا يعني أن أوبك كمنظمة ستُحل، بل ستبقى منظمة لها كيانها القانوني، ولكنها فعليا ميتة سريريا ولم يبق منها حيا إلا قسم البحوث.
وما يعزز فكرة "الموت السريري" لأوبك، الخطة السعودية لتخصيص جزء من شركة أرامكو وجعلها شركة مستقلة من جهة، وزيادة حجم قطاع التكرير من جهة أخرى.
فتخصيص الشركة وجعلها مستقلة يعني أن هدفها الرئيس هو تعظيم الربحية، مثلها مثل شركات النفط العالمية مثل إكسون موبيل، وشيفرون، وبي بي، وتوتال. ومبدأ تعظيم الربحية قد يتعارض مع متطلبات أوبك أحيانا، مثل تخفيض الإنتاج.
أما تبني سياسة توسيع أعمال التكرير فإن هذا يعني احتمال تحول أغلب أسواق النفط العالمية من المنافسة في النفط الخام إلى المنافسة في المنتجات النفطية، وهذا أيضا يلغي دور أوبك لأن اتفاق الدول الأعضاء في أوبك على النفط الخام وليس المنتجات.
إلا أن تحول أسواق النفط من المنافسة في الخام إلى المنافسة في المنتجات النفطية له انعكاسات عديدة أهمها:
1. تحول مراكز القوة والتحكم من الدول المنتجة إلى الدول المكررة، بينما ستتمتع الدول المنتجة التي لديها طاقة تكريرية كبيرة هدفها التصدير بقوة سوقية أكبر. هذا يعني بروز السعودية والولايات المتحدة والصين والهند.
2. تحول في اتجاهات تجارة النفط العالمية، الأمر الذي قد يؤثر على حركة الملاحة في المضائق المائية مثل قناة السويس وغيرها.
3. وسيؤدي هذا التنافس إلى تحسن كفاءة المصافي في أنحاء العالم، وقد ينتج عنه تطورات تكنولوجية هامة تسهم في تخفيض التكاليف وتحسين البيئة.
4. وقد ينتج عن هذا التحول انخفاض دور الدولار في تجارة النفط العالمية لسببين: الأول تكامل الشركات رأسيا، وهذا يعني أن التعامل ضمن الشركة بين قسمي الإنتاج والتكرير سيكون على الورق بدلا من تعاملات مالية بين شركتين. والثاني أنه يمكن بيع المنتجات النفطية بعملات الدول المستوردة للمنتجات، كونها المستهلك النهائي لها.
5. وقد ينتج عن هذا التحول تعاون من نوع جديد بين الدول النفطية في ظل غياب أوبك تقوم فيه دولة مثل السعودية بتخزين وتكرير النفط النيجيري مثلا، سواء داخل السعودية أو خارجها، ثم تصديره للعالم كمنتجات.
التحديات القادمة
تواجه أسواق النفط تحديات كبيرة في السنوات القادمة أهمها تبني الدول الصناعية قوانين جديدة للحد من انبعاث الغازات المسببة للانحباس الحراري والتغير المناخي. ويرتبط بذلك هدف هذه الدول الابتعاد عن الوقود الأحفوري واستعمال مصادر الطاقة المتجددة مثل الطاقة الشمسية والرياح.
وبالتالي فإن النتيجة المنطقية لهذه الجهود هي الانخفاض المستمر في الطلب على النفط ومشتقاته.
وهنا لا بد من التسليم بحقيقتين: أولاهما أن هذه الدول تواجه تحديات كبيرة في تحقيق هذه الأهداف، وثانيهما أن هناك تفاوتا كبيرا بين هذه الدول في درجة تحقيقها لهذه الأهداف.
ففرض ضرائب على منتجات الوقود الأحفوري ثم تقديم إعانات لمصادر الطاقة المتجددة، ليس الحل الاقتصادي الأمثل، وليس الحل البيئي الأمثل. وخلق أسواق للتجارة بالكربون له مساوئه ومنافعه.
والحقيقة التي لا يمكن التغافل عنها هي أن أثر نمو الطاقة المتجددة على النفط أثر ضعيف، ولكنه أكبر بكثير على الفحم والغاز.
وسبب ذلك أن الولايات المتحدة وأوروبا حولت أغلب قطاعها الكهربائي عن النفط لصالح الفحم والغاز والطاقة النووية منذ السبعينيات، وبالتالي فإن زيادة توليد الكهرباء من طاقتي الرياح والطاقة الشمسية سيكون على حساب هذه المصادر وليس النفط.
وقد أدت التطورات التي شهدتها أسواق النفط في الخمسين سنة الماضية إلى اقتصار استهلاك أغلب النفط في قطاع المواصلات.
وبهذا فإن ما يهدد النفط في النهاية هو التطورات في قطاع المواصلات. ويظهر أن هناك أربعة مخاطر يذكرها الخبراء وهي: السيارات الغازية، والسيارات الكهربائية، وخدمة "أوبر" والمشاركة في ركوب السيارات، والسيارات الذاتية القيادة.
ازداد عدد السيارات والحافلات والشاحنات التي تعمل بالغاز الطبيعي في السنوات الأخيرة، ولكن نسبتها من إجمالي عدد السيارات ما زال بسيطا جدا.
ومن أهم مساوئ هذا النوع من السيارات أن ملأها بالغاز المضغوط يستغرق عدة ساعات، وسعرها أعلى من سيارة مماثلة تعمل بالبنزين، وحجم ووزن خزان الوقود يحدان من سعتها وحمولتها. لهذا لا يتوقع لهذا النوع من السيارات أن يكون خطرا كبيرا على النفط في المستقبل.
أما تحول السيارات الصغيرة وذات الثلاث عجلات في بعض الدول الفقيرة إلى الغاز أو البروبان فإنه مقتصر على بعض المدن فقط، وأثره على النفط بسيط.
أما السيارات الكهربائية، فرغم تحسن عملية التخزين في البطاريات وانتشار سيارات "تسلا"، فإنها مرتفعة التكاليف، الأمر الذي يجعل ملكيتها تقتصر على طبقة الأغنياء. وحتى السيارات الصغيرة التي أعلنت شركة "تسلا" عن إنتاجها مؤخرا ستكون مرتفعة التكاليف مقارنة بمثيلاتها.
ووفقا لمعلومات من كبرى شركات السيارات في العالم فإن تكاليف البطاريات لن تنخفض، وأي انخفاض نتيجة تحسن الكفاءة فإنه سيتم التعويض عنه برفع الحكومات الدعم عن هذه السيارات.
والحقيقة أن المشكلة الرئيسة التي تواجه السيارة الكهربائية هي الوزن الهائل للبطارية، الأمر الذي يحد من قدرة السيارة مقارنة بالسيارة نفسها بمحرك بنزين.
ولعل أهم ما سيحد من انتشار السيارة الكهربائية هو أن البطارية تتطلب معادن نادرة موجودة في بلدان قليلة أهمها روسيا.
ولا يتوقع أن تقبل الحكومة الأميركية أو الحكومات الأوروبية اعتماد قطاع المواصلات فيها على روسيا.
إضافة إلى ذلك فإن الانتشار الكبير للسيارات الكهربائية سيخلق مشكلة ضخمة جدا وهي كيفية التخلص من بطاريات السيارات التي انتهت صلاحيتها، وهي بطاريات كبيرة وثقيلة وشديدة السمية.
الواقع أنه ليست هناك قوانين تحكم ذلك الآن، ولكن تفاقم المشكلة يعني تشريعات جديدة سترفع من تكاليف ملكية سيارة كهربائية.
وهنا لا بد من التنبيه إلى أن السيارة الكهربائية ليست صديقة للبيئة كما يدعي البعض لأنها تعتمد على كهرباء مولدة من مصادر مختلفة، منها الفحم.
أما خدمات "أوبر" والمشاركة في السيارات فإنها مرحلة من مراحل التقدم في حياة المدن التي تزيد من الكفاءة في استخدام السيارات، خاصة أن الناس في المدن لا تملك سيارات أصلا.
لذلك لا يمكن النظر للموضوع على أنه مدمر لنمو الطلب على النفط، وإنما مظهر من مظاهر الكفاءة المطلوبة.
وتشير الدراسات إلى أن زيادة كفاءة المحركات أو زيادة الكفاءة في استخدام المواصلات تؤدي إلى استخدام أكبر، الأمر الذي يلغي جزءا من الأثر السلبي لتحسن الكفاءة على نمو الطلب على النفط.
ويبدو أن السيارات الذاتية القيادة ستحكمها قوانين تحد من آثارها، علما بأنها ستكون محصورة في بعض المدن من بعض الدول المتقدمة. إلا أن هناك الكثير من المشاكل التقنية والقانونية والطبية التي ليس لها حل الآن. مثلا، المشكلة الكبيرة التي تواجه انتشار السيارات الذاتية القيادة هي مرض دوار البحر الذي يصيب الراكبين فيها.
وإذا نظرنا مرة أخرى إلى كل الأمور المذكورة أعلاه، نجد أنها أمور تقتصر على الدول المتقدمة حيث لا يمكن أن تنتشر السيارات الكهربائية في الدول النامية.
خلاصة القول أن التطورات الجديدة في قطاع المواصلات تحسن من كفاءة نظام المواصلات، ولكنها ليست قاتلة للنفط في معقله الأخير.
نعم، للنمو حدود، ولن ينمو الطلب على النفط للأبد، إلا أن ما يقال عن تهديدات التكنولوجيا الجديدة في قطاع المواصلات مبالغ فيها.
نقلا عن الجزيرة نت
استخراج تاشيرات للشركات والموسسات للتواصل واتس 0558429809