استدامة الطلب على النفط

08/11/2023 2
د. إبراهيم بن محمود بابللي

هذه هي المقالة الثانية في سلسلة مقالات المزيج الاقتصادي للطاقة، وتهدف هذه المقالة إلى اقتراح محددات جديدة لمزيج الطاقة، بالانطلاق من إيجاد قيمة اقتصادية لثاني أكسيد الكربون، أذكر القارئ الكريم بأننا طرحنا السؤال التالي في المقالة الأولى: "هل الاستثمار في صناعة الطاقة المتجددة هو الاستثمار الأمثل لكل دولة، لاسيما تلك الغنية بمصادر أخرى، كالنفط والغاز، أم في إيجاد حل اقتصادي لمشكلة انبعاث ثاني أكسيد الكربون من مصادر الطاقة؟" ثم أضفنا التساؤل التالي: "ما الذي سيحدث لصناعة النفط والغاز في العالم إذا طُوّرت حلول مبتكرة ومجدية اقتصاديا لإيجاد طلب على ثاني أكسيد الكربون؟"

الجواب هو أن تطوير حلول مبتكرة ومجدية اقتصاديا لإيجاد طلب على ثاني أكسيد الكربون، بحيث يكون أحد مدخلات الصناعة أو الزراعة أو غيرها من القطاعات الاقتصادية، سيجعل استخدام الوقود الأحفوري، لتوليد الكهرباء ولتحلية المياه وللصناعة كثيفة الاستهلاك للطاقة، مُمَكّنا للتنمية الاقتصادية ومحافظا على الاستدامة البيئية، في الوقت نفسه، إننا إذا توصلنا إلى حلول اقتصادية لخلق طلب على ثاني أكسيد الكربون، فإن استخدام الوقود الأحفوري سيكون هو الخيار الأول والأفضل للدول المنتجة للنفط والغاز، لتمتعه بميزات هامة جدا في مقابل خيارات الطاقة الأخرى مثل كثافة الطاقة التي يختزنها، وإمكانية تخزينه ونقله بسهولة وأمان، وملاءمته لجميع الاستخدامات في توليد الطاقة سواء في المحطات أو في المركبات أو في السفن أو في الطائرات، ولكن تحقيق هذا الهدف، وهو استخدام الوقود الأحفوري دون انبعاث ثاني أكسيد الكربون، يحتاج لإعادة النظر في عناصر عدة في منظومة توليد الكهرباء، بشكل رئيس، ثم في منظومة الصناعة كثيفة الاستخدام للطاقة، ثم في منظومة النقل، وغيرها من منظومات الطاقة، سواء من جهة التوليد أو من جهة الاستخدام.

إن أول عنصر وأهمها على الإطلاق هو اتخاذ القرار لقيادة الجهود العالمية لإيجاد طلب مكثّف على ثاني أكسيد الكربون كمُدخل في صناعات مختلفة. ويترتب بالضرورة في هذه الحالة أن هناك خياران اثنان لا ثالث لهما، وهما: إما الإمساك بزمام المبادرة، وإما تركها للآخرين، ولنأخذ مثالا على ذلك. إذا نظرنا إلى منحنى تكلفة الخلية الشمسية الكهروضوئية من السبعينات الميلادية وحتى منتصف العقد الماضي، كما هو مبين في الشكل التالي، فإننا نجد انخفاضا حادا في السنوات العشر الأولى يعود لقرار قيادي اتخذته ألمانيا الغربية، آنذاك، لتطوير الخلايا الشمسية، مما أدى لانخفاض أسعارها إلى مستوى سهّل دخول مستثمرين آخرين في هذه الصناعة، مثل الشركات الصينية، وتبعه ما نراه حاليا من الأسعار التنافسية لهذه التقنية. إن إيجاد الحلول للتحديات أمرٌ يتطلب الإمساك بزمام الأمور واتخاذ قرار بقيادة المسار. وقديما قال المتنبي: لولا المشقةُ ساد الناسُ كلّهمُ *** الجودُ يُفقِر والإقدام قتّالُ.

 

 

أما العنصر الثاني الهام فهو إعادة النظر في مواقع محطات توليد الكهرباء والمصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة،بحيث تكون أقرب ما يمكن لأماكن الطلب على ثاني أكسيد الكربون، أو أماكن دفنه تحت الأرض (Sequestration). ونسوق بعض الأمثلة على ما نطرحه هنا: تستخدم بيوت الزراعة المحمية مولّدات ثاني أكسيد الكربون لإثراء الهواء بهدف رفع كفاءة إنتاج المحاصيل الزراعية. وبدلا من استخدام مولّدات تعمل بالديزل، يمكن الحصول على ثاني أكسيد الكربون من أحد المصانع كثيفة الاستهلاك للطاقة. ولكن لأن تكلفة نقل ثاني أكسيد الكربون مرتفعة، فمن الضروري إعادة النظر في التخطيط المكاني للأنشطة الزراعية والصناعية بحيث تتكاملان مع بعضهما البعض. مثال ثانٍ على هذا العنصر هو اختيار موقع محطات توليد الكهرباء، والتي عادة تكون بالقرب من التجمعات البشرية أو الصناعية الرئيسة، بهدف خفض تكلفة نقل الكهرباء. ولكن هذا المعيار يصبح أقل أهمية إذا قارنا تكلفة نقل الكهرباء بتكلفة نقل ثاني أكسيد الكربون، فإذا استهدفنا دفن ثاني أكسيد الكربون المنتج من محطة توليد الكهرباء، فإن المكان الأمثل لها يكون بالقرب من مكان دفن ثاني أكسيد الكربون، وليس بالقرب من التجمعات البشرية.

العنصر الثالث الذي يحتاج إعادة النظر فيه هو استخدام التقنية الأنسب للتطبيقات المختلفة، من منطلق إعطاء الأولوية للتعامل مع ثاني أكسيد الكربون. مثال ذلك من صناعة النقل، إذ يغلب على الظن أن الحد من انبعاث ثاني أكسيد الكربون من السيارات الخفيفة ما يزال بعيد المنال، ولكن الحل البديل متوافر، إذا أعدنا النظر في منظومة الطاقة (النقل هنا) من منطلق ثاني أكسيد الكربون. إن توليد الكهرباء في محطات مصممة لتجميع ثاني أكسيد الكربون واستخدامه في صناعة ملائمة، ثم استخدام هذه الكهرباء في سيارات كهربائية سيقلل من انبعاث الكربون تدريجيا في منظومة النقل إلى أن يتوقف الانبعاث تماما.

إن الدول الصناعية الكبرى غير حريصة على إيجاد حل مجدٍ اقتصاديا لمشكلة انبعاث ثاني أكسيد الكربون، بل تُركّز جل اهتمامها على الحد من الانبعاث (Curtailment) باستهداف تقليل استخدام الوقود الأحفوري. إن عدم الحرص هذا له سببان في رأينا: الأول هو أن معظم هذه الدول غير منتجة للنفط والغاز، بل مستهلكة لهما، خاصة النفط، فتقليل الاستخدام يصب في مصلحتها. أما السبب الثاني فهو أن معظم هذه الدول أنجزت معظم استثماراتها الصناعية كثيفة الاستخدام للطاقة في القرن الماضي قبل أن تبدأ هي ذاتها بمطالبة غيرها بعدم الاستثمار في الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة، إن مزيج الطاقة الذي يخلو من استخدام الوقود الأحفوري، للدول المنتجة للنفط والغاز، مزيج غير منطقي. ولكن أيضا فإن مواصلة استخدام هذا الوقود دون إيجاد حل حقيقي لمشكلة ثاني أكسيد الكربون، سيواجه تحديات متزايدة وضغوطا سياسية مكثّفة. إن الحل الحقيقي لثاني أكسيد الكربون يكمن في تحويله من عدو إلى صديق، ومن مُلوّثٍ للبيئة إلى عنصر تمكين اقتصادي.

 

 

 

 

خاص_الفابيتا