ويحك، لِمَ لَمْ تُرعَد فرائصك؟

31/12/2023 0
د. إبراهيم بن محمود بابللي

روى الصحابي زيد بن الأسود العامري السوائي – رضي الله عنه: "شهِدتُ مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلم حَجَّتهُ فصلَّيتُ معه الصُّبحَ في مسجدِ الخَيفِ فلمَّا قضى صلاتَهُ وانحرف إذا هو برجلينِ في آخِرِ القومِ لم يصلِّيَا معه قال عليَّ بهما فجيءَ بهما تُرْعَدُ فرائصُهما، فقال: ما منعكُما أن تصلِّيا معنا؟ فقالا: كنَّا صلَّينا في رِحالنا. قال: فلا تفعلا إذا صلَّيتما في رِحالكما ثمَّ أتيتما مسجدَ جماعةٍ فصلِّيا معهم، فإنَّها لكما نافلةٌ، الفرائص جمع فريصة، وهي لحْمةٌ بين الجَنبِ والكَتِفِ على كل جانب ترتجفان عند الفزع، و "تُرعَدُ فرائصهما" كِنايةٌ عن شِدَّةِ خوفِهما. ومنه قول الشاعر ابن شهاب العلوي:

دَمِثُ الخلايق وهو ذو العزم الذي            من بأسِهِ ارتعدت فرائصُ أُسْدِهِ

بعد أن حصلنا على شهادة الماجستير في الهندسة النووية، قُبِلتُ وعددٌ من زملائي لدراسة الدكتوراة في قسم الهندسة النووية بجامعة بُوردُو (Purdue University). وعند إكمالنا فصلين دراسيين، مقرونا بالعمل البحثي، تقدمنا للامتحان التأهيلي، بشقَّيهِ الرئيس والثاني، والذي يُنظرُ إليه على أنه العقبةُ الأكثرُ مَنَعَةً لمن يسعى لنيل درجة الدكتوراة في النظام الأكاديمي للولايات المتحدة الأمريكية.

كانت عناصر الامتحان التأهيلي للدكتوراة في قسم الهندسة النووية مختلفة عن مثيلاتها في أقسام الدراسات العليا الأخرى في الجامعة. كان ينبغي على الطلبة المتقدمين للامتحان التأهيلي في قسم الهندسة النووية دراسةُ ورقة بحثية – مختارة بعناية من لجنة الامتحان – ذات أهمية للمجال الرئيس الذي اخترناه، ثم تحليلُها ونقدُها. وبعد ذلك نبدأ الاستعداد للاختبار الشفوي الذي يُعقدُ معا للمجالين الرئيس والثاني، للأول ساعتان وللثاني ساعة واحدة. أما عن المادة العلمية التي كان يطلبُ منا دراستها فحدِّثْ ولا حرج. كان ينبغي علينا التحضير للاختبار بدراسة كل ما له علاقة بالمجالين، الرئيس والثاني، بما في ذلك الأوراق العلمية المنشورة قديما وحديثا، والكتب الأكاديمية، والتقارير البحثية، والمحاضرات، وغيرها من المحتوى العلمي. في المقابل، زملاؤنا في أقسام الدراسات العليا الأخرى في الجامعة كانوا يكتفون بدراسة عدد من المواد الدراسية ومراجِعِها وأسئلة الاختبارات الفصلية السابقة، بناء على قائمة تعطى لهم من الأقسام الأكاديمية.

كنتُ اخترتُ عندما التحقت بالجامعة مجال الهيدروليكا الحرارية للتخصص فيه، وعندما حان وقت اختيار المجال الثاني للتحضير للاختبار التأهيلي، فاضَلتُ بين علم المواد (Material Science) والاندماج النووي (Nuclear Fusion) وفيزياء المفاعلات النووية (Neutronics). ولقناعتي بأن تأهيلي في مجال الهندسة النووية يتطلب مني معرفة عميقة بفيزياء المفاعلات النووية، ولرغبتي في العمل مع المفاعلات البحثية عند عودتي للمملكة، اخترت مجال فيزياء المفاعلات النووية مجالا ثانيا بعد مجال الهيدروليكا الحرارية، تألفت لجنة الاختبار من رئيس القسم الدكتور فيكتور رانسُم والدكتور مامورو إيشي (مشرفي الأكاديمي) في مجال الهيدروليكا الحرارية، ومن الدكتور كارل أوت (أحد تلاميذ فيرنر هايزنبيرج الحاصل على جائزة نوبل) والدكتور توماس داونار في مجال فيزياء المفاعلات النووية، وبعدما سلّمتُ الدراسة المفصّلة عن الورقة البحثية التي أسنِدَتْ لي دراستُها، مثلتُ أمام لجنة الاختبار، ودار في خلدي أنني أبليت بلاءً حسنًا في المجال الرئيس، ولكنني لم أحسِن الإجابة عن عدد من الأسئلة في فيزياء المفاعلات النووية. فبناء على تقييمي أنا لأدائي، اعتقدت أنني اجتزت اختبار الهيدروليكا الحرارية، وأنه سيطلب مني العودة مرة ثانية، وأخيرة، لاختبار فيزياء المفاعلات النووية، ولكن لم يصدق توقعي.

اتصلت بي سكرتيرة رئيس القسم قائلة إنه يريد رؤيتي. عندما جلست في مكتبه قال لي، بعد التحية، إنني لم أنجح في الامتحان التأهيلي، ولكنني في الوقت نفسه لم أفشل. لم أفهم مقصوده فسألته التوضيح، فطلب مني أن أذهب لرؤية أستاذي الدكتور مامورو إيشي. خرجت من مكتب رئيس القسم مهرولا باتجاه مكتب أستاذي، وعندما دخلت مكتبه أمرني بإغلاق الباب، ثم دفع بظهر كرسيه إلى الخلف وانفجر ضاحكًا، مما زاد من حيرتي لأنني تعودت منه الوقار والتحفظ والانضباط التام. تمالك نفسه بعد هنيهات ثم قال: "كنتَ واثقًا جدًا من نفسك ولم تُرْعَد. لم يعجبهم ذلك". اتضح أن لجنة الاختبار أغضبها أنني لم أظهِر أي قلق أو رِعدة أو توتر عندما عجزت عن إجابة بعض الأسئلة في المجال الثاني، وأنني حافظت على هدوئي ورباطة جأشي. لم أصدق أذنَيّ، لكن أستاذي إيشي طمأنني أن الأمور ستكون على ما يرام، وأن لا داعي للقلق، وأن عليّ التحضير بشكل جدي للاختبار الثاني في مجال فيزياء المفاعلات النووية، هدانيَ الله، كنت أجهل أين فرائصي، فلم تُرعَدْ عندما حُقَّ لها أن تُرعَدْ، عندما غادرت مكتب أستاذي إيشي، ذهبت إلى صالة الطلاب حيث كان زملائي ينتظرون سماع ما حدث معي. لم يصدقوا ما حدث عندما أخبرتهم، أما كرِسْ، طالب الدراسات العليا من سياتل، فأنّبني قائلا إنه كان ينبغي عليّ أن أبلِّلَ ثيابي لإظهار أنني كنت قلقًا بالفعل، ثم عندما تقدمت للامتحان مرة ثانية، وركزت على إجابة الأسئلة قدر استطاعتي، أكرمني الله بالنجاح.

========================

الدروس المستفادة:

· من أكبر نِعَمِ الله على الإنسان وجود شخص يؤمن بهِ ويذُبُّ عنه، ولعل هذا أهم عامل تمكين في حياتنا المهنية. كنت محظوظا لأن أستاذي الدكتور مامورو إيشي كان لي ذلك

· ستمر بك مواقف يحكَمُ عليك فيها بمعايير ليس لها علاقة بأدائك، أو بمن تكون، أو بماذا تعرف. كن مستعدا، وانحنِ للعاصفة ودعها تمرّ، ثم واصل السير

[1] خلاصة الأحكام للنووي، 271/1

https://poetsgate.com/poem.php?pm=58284 [2]

[3] الهيدروليكا الحرارية (Thermalhydraulics) علمٌ يجمع بين ميكانيكا الموائع(Fluid Mechanics) وانتقال الحرارة (Heat Transfer) والسريان متعدد الأطوار (Multiphase Flow) ضمن إطار المفاعلات النووية.

[4] لهذا الأمر قصة طريفة أرجو أن يتسع بي العمر، ويسمح الزمان والمكان أن أرويها.

[5] أحد تلاميذ العالم الكبير فيرنر هايزنبيرج، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء.

 

 

 

 

خاص_الفابيتا