زعزع تراجع أسعار النفط اقتصادات منتجة متينة. هدد أخرى لا علاقة مباشرة لها بإنتاجه.
أسواق المال التي تُعتبر الميزان، تداعت من دون تمييز بين شرق وغرب.
قلق متنامٍ يسود بورصات آسيا، أوروبا لم تسلم من هذا الطوفان، خصوصاً أنها لم تتعافَ بعد من إصاباتها الأخيرة.
وفي الجهة الأخرى من الأطلسي، عجزت «وول ستريت» عن الحفاظ على ماء الوجه. شركات النفط الكبرى في طليعة المصابين.
خفضت نفقات وأوقفت مشاريع تنطوي على بعضٍ من مخاطرة. تسلسلٌ يذكّر بأزمات لا أحد يريد استذكارها. من السهل تحميل أسعار النفط وزر هذا التردي.
أسهل منه اتهام البلدان المصدرة بإغراق السوق، وفي طليعتها السعودية، في مواجهة هجوم النفط الصخري الأميركي. لا شك في أن اتفاقاً محتملاً بين المصدّرين من الداخل والخارج يساهم في وقف تراجع الأسعار.
الخلل قد يكمن في البنى الاقتصادية، وهي إلى تحول.
النموذج الحالي مرهَق. البحث جارٍ عن حلول أخرى. التحالفات العابرة للقارات أصبحت واقعاً. اقتصادات العالم مترابطة، لم يعد أي منها في منأى عن ضعف جماعي.
حتى الولايات المتحدة مهددة بهذا الوباء، لكنها تبرع في إخفاء أعراضه. لم تغيّر الهزّات المالية الأخيرة التي ضربت العالم في 2008، كثيراً عادات سكانها الاستهلاكية.
يعرفون أنها كبوة عارضة وأن الدولة التي رزحت تحت عجز متواصل تجاوز 16 تريليون دولار، خفضت الإنفاق لكنها لم تغير أنماط معيشتها.
هذه هي أميركا، ترتكب أخطاء قاتلة كما حصل في الأزمة المذكورة، فتنهار اقتصادات العالم.
ثم تقف مجدداً في الواجهة، من دون أن ترفع معها الدول التي كانت هي سبباً في وصول اقتصاداتها إلى شفا الهاوية. وكأنها لا تأبه، أو لا تتأثر بما يحصل حولها. حوّلها مركزها الأول إلى ميزان.
زيادة مخزونها النفطي أو نقصانه يساهمان في رفع أسعار النفط أو خفضها. لقيمة الدولار أيضاً دور في صناعة السوق. لكنها لم تعد اللاعب الأوحد.
في الوسط، تحاول روسيا التي تجني نصف إيراداتها المالية من صادرات النفط، الخروج بأقل قدر ممكن من الخسائر. أطلق بوتين خطة من 9 بلايين دولار لمواجهة الأزمة المستجدة، من دون الإعلان عن مصادر تمويلها.
خفْض إنتاج النفط بالتوازي مع دول الخليج خصوصاً، قد يرفع أسعاره، ضمن حدود. لكنّ إعادة إطلاق العجلة الاقتصادية بإجراءات دعم لصناعة السيارات والزراعة، وبإصلاحات في العمق خصوصاً لتعزيز دور الشركات الصغيرة والمتوسطة، تعد بنتائج أكبر، والمواطنين الروس بدأوا يفقدون الثقة.
فبلوغ الروبل أدنى مستوياته على الإطلاق أمام الدولار، أضعف معنوياتهم بشدة منذراً بعام ثانٍ من الركود. البلايين التسعة لن تكون كافية لإنقاذ سريع للوضع. الموازنة وضعت على أساس 50 دولاراً لبرميل النفط.
خطة الإنقاذ الحكومية، إذا نفذت كما يجب، تتطلب وقتاً للحكم على نتائجها.
الثقة في قطاعات الأعمال تراجعت بشدة في كانون الثاني (يناير).
ضعف الروبل يفاقم المشكلة. جهود موسكو في التحول إلى لاعب اقتصادي إقليمي، باءت بالفشل في الوقت الحاضر.
كل المعطيات تشير إلى آفاق شبه قاتمة في المدى القصير... إلا إذا رُفعت العقوبات الأوروبية المتصلة بالأزمة الأوكرانية، وعمقت روسيا دورها الأوروبي.
اوروبا بدورها، ليست في موقع قوة. وحدها ألمانيا تبدو بعيدة عن هذه الأجواء. وزن الدول الأوروبية في هذه المعمعة لا يعتبر فاعلاً بالقدر المطلوب.
اتحادها لم يظهر الزخم اللازم للخروج من الأزمة. بريطانيا واستفتاؤها فاقما الوضع. دول عدة في القارة غارقة في متاهات لم تظهر نهاياتها بعد.
النمو العام شبه معدوم على رغم مؤشرات متفائلة، تراجعت صادراتها إلى العالم نتيجة تأزم الأوضاع الاقتصادية الدولية، وتقلصت قدراتها على تصريف المنتجات الصينية في أسواقها. صادراتها إلى دول النفط انخفضت مع تراجع أسعاره. آفاق التعافي المرتقب ضبابية.
في الجهة المقابلة، تقف الصين، التي بقيت لسنوات تحقق نمواً سنوياً يفوق 10 في المئة.
اشتدت المنافسة بين الماردين إلى حد أن واشنطن رفعت الصوت مرات، مطالبة بكين بتصحيح وضع عملتها، والتي تعتبرها دون قيمتها الحقيقية.
الصين تراوغ مرات، وتستجيب مرة، مواربةً. كانت تظن أن الوضع الاقتصادي العالمي لا يعنيها. تصنع وتُصدّر بأسعار تصعب منافستها.
لكن الأزمة تشبه مبدأ الأوعية المتصلة. تراجع النمو الصيني إلى حدود 7 في المئة.
وتراجع الإنفاق. ومع دخول العام الجديد، دخل العالم في مباراة لم يشهدها سابقاً، بين الدولة التي تسعى إلى «طريق حرير» جديد يعيد أمجاد الماضي، من جهة، والولايات المتحدة والدول الغربية التي تحاول الحفاظ على مكانتها الدولية، من جهة أخرى.
حكومة بكين لم تبقَ مكتوفة الأيدي في مواجهة الوضع المستجد. تعمل جاهدة على تسريع الانتقال من نموذج تنموي عماده الصناعات الثقيلة (مع ما ينتجه من ضرر على البيئة) وموجه إلى التصدير، إلى آخر يعتمد على الاستهلاك الداخلي والخدمات.
لكنها تعلم أن البعد الخارجي ضرورة. مقولة «حزام واحد، طريق واحد» التي أطلقها الرئيس شي جينبينغ، ليست إلا تأكيداً لذلك.
الهدف هو «قلب أوراسيا» النابض. براً عبر خطوط للسكك الحديد تنطلق من غرب الصين، عبر آسيا الوسطى وصولاً إلى أوروبا.
وبحراً عبر مجموعة موانئ تسمح لدول شرق آسيا بتسويق منتجاتها من دون عبور محيطين، وفقاً للاقتصادي الأميركي فرانسيس فوكوياما. وهناك من يؤكد أن «بنك الاستثمار الآسيوي في البنى التحتية» أنشئ لهذا الهدف (لم تشارك فيه أميركا).
غيرت بكين سياستها الخارجية. تحاول للمرة الأولى تصدير نموذجها التنموي، بعدما جهدت منذ سنوات في الاستثمار في دول أميركية وأفريقية. وضعت خططاً مدروسة بدقة، قوامها تعزيز القدرات الاستهلاكية في الدول الأقل نمواً.
نقل صناعاتها الثقيلة إليها لاستخراج المواد الأولية بدلاً من قيامها هي بهذه المهمة، أبرز مقومات هذه الخطة. معروف أن الحكومة تستثمر بقوة في البنى التحتية التي تسهل نمو الصناعة.
بينما يرتكز النموذج الغربي على استثمارات مختلفة، إذا نجح النموذج الصيني في تصدير مقوماته عبر مقولة «حزام واحد، طريق واحد»، فقد يغير رؤية الدول التي يعبرها نحو نوع مختلف من النمو، لتحل محل أخرى غارقة في التباطؤ، وتزيد الطلب على المنتجات الصينية.
في المعادلة الجديدة قطبان، الثقل المواجه تجسده أميركا. بصعوبة وبالسلاح ذاته، أنشأت مجموعتها «الخاصة»، «الشراكة عبر المحيط الهادئ» في مواجهة «طريق الحرير».
نقلا عن الحياة