نأت سويسرا بنفسها عن العالم لعقود؛ ونجحت في تشييد قاعدة مصرفية آمنة وموثوقة؛ رسخت من خلالها ثقافة السرية المصرفية التي تحولت مع مرور الوقت إلى حواجز فولاذية منيعة؛ يصعب اختراقها؛ ما أهلها لممارسة دور البنك المركزي العالمي الذي تودع فيه فوائض أموال الرؤساء والقادة والمنظمات والدول؛ وإرهابيي العالم وزعماء المافيا وعتاة المجرمين.
كان القطاع المصرفي السويسري قبلة الباحثين عن سرية الودائع؛ ومصادر الأموال؛ حتى ضرب الإرهاب أمريكا التي نجحت في إصدار قوانين مالية صارمة أدت إلى نقض سرية الحسابات؛ وإلزام المصارف بفحص الودائع؛ والتأكد من المدفوعات المالية؛ والتصريح عن الحسابات المشبوهة.
غسل أموال المخدرات؛ تمويل الإرهاب؛ انتهاك العقوبات الدولية؛ والتهرب الضريبي من أهم المخالفات المتعارضة مع معايير الإلتزام المالي؛ وهي المدخل الذي استطاعت من خلاله وزارة العدل الأمريكية النفاذ إلى قلعة البنوك السويسرية المُحصنة؛ وإسقاط سورها الحصين بسطوة القانون.
معايير الالتزام المالي؛ والقوانين الدولية ارغمت القطاعات المصرفية على الانكشاف أمام وزارة العدل الأمريكية؛ وإستخباراتها المتنفذة؛ وتحولت إلى أدوات تُجمع من خلالها الغرامات المغلظة؛ ويُنتقم بها من الدول التي تتعرض قطاعاتها المصرفية للاختراق.
وجهت السلطات الأمريكية اتهامات مباشرة إلى مصرف «HSBC» البريطاني؛ بمساعدة عملائه على التهرب الضريبي، وتمكينهم من إيداع أموالهم في حسابات خاصة بفرعه في سويسرا. أثبتت نتائج التحقيقات أن المصرف البريطاني، ساعد عملاءه الأثرياء على التهرب من الضرائب عبر أكثر من 30 ألف حساب مصرفي موزعة على 10 دول، من بينها فرنسا وبريطانيا والبرازيل وإيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل والأرجنتين وبلجيكا.
يبدو أن مصرف HSBC البريطاني لن يكون الأول؛ ولا الأخير الذى يواجه اتهامات تتعلق بمساعدة عملائه في التهرب الضريبي. السلطات الأمريكية وجهت اتهامات جديدة لبنك «يو بي إس» السويسري على خلفية مساعدته بعض عملائه على التهرب من الضرائب عبر استثمارات محظورة يُعتقد أنها «سندات مملوكة لحامليها» وهي السندات التي يمكن تحويلها دون تسجيل ملكيتها، ما قد يتيح للعملاء إمكانية إخفاء الأصول.
وجدت أمريكا في الغرامات الضخمة مصدراً جديداً لجمع الأموال؛ وتمويل وحداتها الاستخباراتية والرقابية؛ والعدلية أيضا؛ ووجدت في معايير الالتزام؛ والقوانين الدولية الغطاء الأمثل لتغلغلها في الأنظمة المصرفية العالمية؛ ومعاقبتها الدول المستهدفة.
فرضت السلطات الأمريكية العام 2012 غرامة مالية ضخمة على بنك HSBC مقدارها 1.9 مليار دولار لتسببه في دخول أموال غير مشروعة للنظام المصرفي الأمريكي. وفرضت أيضا غرامة مقدارها 10 مليارات دولار على بنك «بي إن بي باريبا» الفرنسي لانتهاكه الحظر الدولي على إيران، السودان، وكوبا. وفرضت في العام 2009 غرامة أخرى على بنك «يو بي إس» قدرت بـ 780 مليون دولار لتسوية قضايا تهرب ضريبي.
ما يحدث للمصارف السويسرية على خلفية التهرب من الضرائب يفترض أن يدق ناقوس الخطر لقطاعنا المصرفي؛ ولمؤسسة النقد العربي السعودي. الأكيد أن الأنظمة المحلية لا تسمح بفتح حسابات لغير المقيمين؛ ولا تسهم في مساعدة المودعين على التهرب الضريبي؛ إلا أن ذلك لا يمنع من وقوع الكارثة مستقبلاً. هناك بعض الأثرياء السعوديين ممن يحملون الجنسية الأمريكية؛ الذين تنطبق عليهم قوانين مصلحة الضرائب الأمريكية الجديدة؛ وبالتالي فهم مطالبون بدفع الضريبة كاملة غير منقوصة. وبرغم الأنظمة التي سنتها «ساما» على خلفية إتفاقية «فاتكا»؛ واستحالة تقديم المصارف السعودية خدمات التهرب الضريبي لمزدوجي الجنسية؛ إلا أن إمكانية الخطأ واردة؛ وبالتالي قد يتعرض القطاع المصرفي لجزاءات تعسفية صارمة؛ ما يستوجب أخذ الحيطة والحذر من قبل «ساما»؛ المصارف؛ ومزدوجي الجنسية من الأثرياء.
كفاءة السلطات الأمريكية في كشف دهاليز البنوك السويسرية المعتمة؛ وكشفها عمليات تهرب ضريبي معقدة؛ تجعلنا نتساءل عن تقصيرها في كشف عمليات تمويل الإرهاب في المنطقة والتي يعتقد أنها أتخذت من بعض مصارف ودول المنطقة ممرات آمنة لها.
الأكيد أن جميع معلومات عمليات تمويل الإرهاب مكشوفة للسلطات الأمريكية؛ إلا أنها تتعامل معها بسلبية واضحة. غض الطرف عن عمليات تمويل الإرهاب في المنطقة لن يطول؛ وأحسب أن ملف التمويل القذر سيتحول مستقبلاً إلى إثبات إدانة للحكومات والدول المنخرطة فيه؛ ولكن بعد تحقيق أهدافهم الإستراتيجية القذرة.
نقلا عن الجزيرة