متحصلات الجريمة لدعم الاقتصاد الوطني

19/06/2014 1
د. عبد القادر ورسمه غالب

في السنوات الأخيرة، أصبحت العديد من الحكومات تعاني من مشاكل مالية ونقص في الأموال وعجز في الموازنات، وللتخفيف من وطأة هذه المعاناة ولكسب ود الجمهور “الزعلان” تلجأ هذه الحكومات لاتخاذ العديد من الإجراءات القصيرة أو الطويلة الأجل، لعل وعسى، تفي بالغرض المنشود وتأتي ببعض الفوائد مما يقود إلى التخفيف من الأزمات المالية حتى ولو إلى حين.

كانت الحكومات تتبارى في إيجاد مشاريع جديدة تساعد في تحريك الاقتصاد لتنعم المجتمعات بالرخاء الاقتصادي والسياسي والاجتماعي، وكل هذا كان يتم، وفق الأطر القانونية والالتزام بقمة المثالية والأخلاق العليا.

ولكن في الآونة الأخيرة، قامت الحكومة في بريطانيا “العظمى” وقبلها الحكومة الإيطالية باتخاذ قرارات تهدف إلى حسب زعمهم لزيادة دخل موارد الدولة وللتخفيف من المعاناة الاقتصادية التي تعصف بهذه البلدان.

وبموجب هذه القرارات سيتم اعتبار أموال معينة ضمن الناتج الإجمالي (الدخل العام) للدولة وهذه الأموال تأتي من بعض الأفعال والممارسات التي تعتبر وتصنف كجرائم في بريطانيا وإيطاليا.

من هذه الأفعال مثلا الدعارة والاتجار في البشر والمخدرات وغيرها من الجرائم التي يجتهد الجميع في مكافحتها بشتى السبل لعدم مشروعيتها.

وما تم في هذه الدول شكل “سابقة” وفتح جدلا واسعا في مفوضية الاتحاد الأوروبي حول مدى قبول هذه الخطوات وما أثرها من كل النواحي، خاصة وأن حكومات أخرى سال لعابها وشمرت عن ساعدها لخوض التجربة لأنها سترفع حجم الناتج الإجمالي للدولة، ولهذا عدة فوائد أولها تخفيض عجز الموازنة.

وهكذا وبتطبيق هذه السابقة، سيصبح المجرمون من المشاركين في زيادة الدخل العام نظير ما يقومون به من أفعال هي في أصلها “أفعال إجرامية” كان من المفترض أن يعاقبوا على ارتكابها أو حتى “محاولة” ارتكابها.

وإذا سلمنا جدلاً وسارت الأمور هكذا، فمن أموال الدعارة والمخدرات سيتم رفع الناتج الإجمالي العام للدولة عبر رفده بالأموال المشبوهة والقذرة.

وعليه سيكون مردود بائعة الهوى ومروج المخدرات وسط الشباب مساويا لمردود المصانع والمزارع والمناجم تحت طبقات الأرض والجامعات.

هذا يحدث لأن هناك من ينظر لعوائد الأعمال بعيداً عن طبيعتها وأصلها وفصلها، فهي في النهاية “عوائد مالية” لا يهم من أين أتت لدعم الناتج الإجمالي للدولة وتحريك الاقتصاد “الوطني”. وفي بريطانيا مثلاً يقال للمعارضين أن دخل الدعارة والرق الأبيض والمخدرات يقارب 20 مليار دولار سنويا، فهل نتجاهل اعتبار إضافتها للدخل القومي بحثا عن “الأخلاق والمثاليات” التي لا تفيد بصورة مادية محسوسة، ولا تشبع البطون الخاوية أو تشفي الأطفال.

ونقول الرحمة على شاعرنا احمد شوقي “إنما الأمم الأخلاق ما بقيت…..”. ومن واقع هذا العمل، بالطبع، يحق لمن يمارسون هذه الأعمال الإجرامية التبجح ورفع الرأس عاليا وكيف لا يفعلون هذا وهم من الأعمدة الساندة للناتج العام للدولة والتي يزودونها من بعد كل سهرة في آخر اليوم بالأموال الساخنة الطازجة.

ومن أموال الناتج المحلي المشبوهة يتم الصرف على المشاريع العامة المهمة التي تتباهى بها الأمم كالتعليم والعلاج والحفاظ على الثقافة المتوارثة والقيم الدينية والنسيج الاجتماعي وتكاليف السفارات والبعثات الخارجية ورواتب المعلمين والمرشدين الدينيين والجويين وغيره.

تخيل هذا؟ فهل في مثل هذا التصرف ذرة من الأخلاق أو نعتبره تصرفاً أخلاقياً من الحكومة التي تقوم في كل لحظة، وبقوة عين، بمطالبة الجميع بالالتزام بالأخلاق كل الأخلاق والحرص على حفظ القانون والنظام وهي جهاراً نهاراً تلعق وتتكسب من الممارسات الإجرامية الدنيئة.

ولا بد من القول إن مثل هذا التصرف، ومن دون شك، سيجعل الحكومة ذات مصلحة خاصة “عليا” في ارتكاب هذه الجرائم بل وزيادتها وانتشارها حتى لا تنقطع مواردها ويجف ضرع مصادرها.

ولمزيد من الحرص على هذه المصلحة، ربما يتم وضع سقف عال لزيادة إنتاج الدعارة وتحفيزهم لمزيد من الإنتاج “وبالإنتاج نحمي بلدنا”. وكما هو معلوم فان المحاكم، عندما تصدر أحكاماً بالسجن والغرامة ضد مرتكبي الجرائم فهي كذلك تأمر بمصادرة المواد المستخدمة في الجريمة مثل البضائع والسيارات والمعدات والأجهزة.

وكل ما تمت مصادرته من المحكمة يتم حرقه أو تمزيقه أو إعدامه لأنه جزء لا يتجزأ من أجزاء الجريمة.

ويتم التخلص السريع منه ولا يجوز الاستفادة منه بسبب ارتباطه بالجريمة ولأنه “مجرم”. وإذا سمحت الحكومة باعتبار بعض الأفعال الإجرامية كجزء من الدخل العام للدولة، فلماذا أيضا ومن الناحية المبدئية، لا نعامل الأشياء التي تصادرها المحاكم بنفس الطريقة ثم نقوم ببيعها ونضيف قيمتها لدعم الخزينة العامة.

فهذه وتلك مرتبطة بالجرائم وكلها بثمنها، وكلما زادت الجرائم زاد الدخل العام وارتفعت الحركة الاقتصادية، ومن هذا سنفتح الباب لصناعات وطنية جديدة، كـ”صناعة الدعارة الوطنية” و”صناعة المخدرات المتقدمة”، ولننتظر كل ما هو آت من هذه “الصناعات” ونرحب به بالأحضان.

وعاش ميكافيلي والغاية تبرر الوسيلة، ولتمتلئ الخزينة العامة لملأ بطون “الشعب” بالقاذورات.

وفي بريطانيا “العظمى” يعملون على قدم وساق لتحديد كيفية احتساب مقدار ومردود هذه الأموال “القذرة” لأنها ستعتبر جزءاً من الناتج الوطني من الصناعة الوطنية.

وهذا الوضع في حد ذاته يتطلب معرفة عدة أمور من ضمنها حجم أموال الدعارة والرق الأبيض، وكذلك تعريف الدعارة “أكرمكم الله” نظراً لأن الناتج سيدخل تحت هذا المسمى في جداول معينة في حسابات الدولة. وأيضاً بالنسبة للمخدرات، سيتم تحديد هذه “التجارة” ومقدار الأموال المرتبطة بها.

ولكن ماذا يحدث مثلا بالنسبة للمخدرات التي اجتهدت الشرطة في متابعة مروجيها وتم ضبطها، فهل يتم بيعها بواسطة من ضبطها ويتم تحصيل العائد وتسجيله في الحسابات الرسمية كـ”قيمة مضافة”؟

ألا يخلق هذا الوضع نوعاً من الازدواجية في الفكر والتعامل، لأن يد الحكومة اليمنى تضبط المحرمات ويد الحكومة اليسرى تبيعها، ويد تبطش ويد تبيع، وكلها الحكومة التي يجب أن تعمل للمحافظة على القيم لصالح الجميع، وكل هذا من أوربا القارة.

وأتمنى ألا نصل لهذا الدرك، وتموت الحرة ولا…

نقلا عن جريدة عمان