لماذا نحن بحاجة إلى أزمة

19/11/2012 0
ساكسو بنك

لا يتقبل العقل البشري التغيير بسهولة. نحن مُبَرْمَجُونَ للبحث عن الأمان والبقاء متقوقعين داخل حجراتنا وتجنب المواجهة – وذلك السلوك يهدف في الأساس إلى تجنب أي تغيير متعلق بعاداتنا وتفكيرنا وأعمالنا. هذا ما يحدث على وجه الخصوص على المستوى السياسي والاجتماعي، وليس على مستوى الأفراد فقط. هذه العقلية هي التي تمنعنا من الانخراط في مسار عمل جديد وجريء، حتى عندما نرى أن الأمور قد بدأت تسير بالإتجاه الخاطىء. لكن في نهاية المطاف، يصبح الألم الناتج عن عدم تغييرنا لطرقنا حادا إلى درجة أنه لا يبقى لنا خيار عدا سلوك اتجاه جديد. ذلك عند بلوغ نقطة حقيقية لأزمة ما. إن نظرة على أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية تجعلنا نرى أننا نقترب شيئا فشيئا من المرحلة الحرجة للأزمة تلك، حيث أن الوضع الراهن الذي بات لا يطاق سوف يُرفض ويبرز عندئذ تفويضا جديدا بالتغيير.

والمفارقة هي أنه عندما تدفعنا المرحلة الحرجة للأزمة إلى العمل، فإننا نُظهر فجأة كامل إمكاناتنا ونصبح عندئذ أكفاء وفعالين ومثابرين ومبتكرين، ذلك لأن التفويض بالتصرف والعمل يمحو كل أشكال مواطن الضعف وعدم الكفاءة التي تتصف بها الطرق أو السُّنن القديمة.عند الوصول إلى المرحلة الحرجة للأزمة نصبح جريئين وحازمين ونبدأ بالمجازفة والمخاطرة كثيرا دون اكتراث بحجم المخاطر. ذلك الأمر يحدث على خلاف دراماتيكي لعدم القدرة على المُخاطرة أو اتخاذ قرارات بعد فترات طويلة من النمو وصناعة الثروة وجمع الأموال والنجاح الشخصي.

هذه المبادىء الأساسية تنطبق على جنوب أوروبا والمأزق الذي تورطت فيه، لأن أزمة اليوم توفر الشرارة المحتومة لتفويض بالتغيير. اليونان وإسبانيا والبرتغال ديمقراطيات فتية ولدت بين عام 1973 وعام 1975 مباشرة من دكتاتوريات سابقة. الآن باتت هذه الدول في مرحلة الانتقال من مرحلة المراهقة إلى مرحلة البلوغ، وهي مرحلة انتقالية تتطلب حِسًّا جديدا بالمسؤولية.

أرى أن هذه الديمقراطيات الثلاثة التابعة لنادي البحر الأبيض المتوسط تشبه مجموعة من الشباب الموهوبين الذين لم يحققوا بعد ما تدل مواهبهم على أنهم قادرون على فعله، وأيضا مجموعة تحتاج إلى أن تدرك أن الأيام التي يستطيعون فيها أن يشربوا طوال الليل وأن يقوموا في اليوم التالي وهم يتمتعون بالنشاط والحيوية قد ولت منذ زمن بعيد. تعمل بطالة الشباب البالغة نحو 50%- إضافة إلى القطاع العام المتضخم (من حيث الأعداد والمرتبات على حد سواء) على حرمان استثمارات ومبادرات القطاع الخاص من الأموال.

كانت الأمور جيدة –بل كادت أن تكون جيدة جدا-منذ سنة 1999 عندما غذّى إدخال اليورو جزءا كبيرا من الطفرة ومن ثم بدأ يفاقم أَلَمَ إفلاس ما بعد سنة 2008. كانت دول نادي البحر الأبيض المتوسط تعتمد على التصنيف الائتماني الألماني الرخيص والسياسة النقدية الغير الملائمة التي انتهجها البنك المركزي الأوروبي التي تعتمد سياسة " حجم واحد يناسب الجميع ". هذا يعني بشكل مصطنع وغير طبيعي أسعار تمويل رخيصة للحكومات التي تسرف في الإنفاق. في المراحل المتقدمة أو المبكرة لهذا الانكماش الاقتصادي كانت الحكومة قادرة على التحفيز لأن الوضع المالي بدا نسبيا سليما (لأن التمويل كان رخيصا)- كانت البنوك وصناديق التقاعد هي الممولة الرئيسية للموجة الجديدة لإصدار الدين العام، التي كانت لديها الكثير من الأموال النقدية لمنع ارتفاع معدلات التمويل. استمر الأمر كذلك حتى أواخر العام 2009 -على الأقل- عندما تبين أن نقطة تشبع الدين قد بُلِغَتْ وأن البنك المركزي الأوروبي لم يتمكن من تسييل الدَّيْن أو بعبارة أخرى تحويلها إلى نقود كما فعل البنك المركزي الأمريكي أو بنك انجلترا.

الآن ونحن على وشك الدخول في العام الخامس لهذه الأزمة العالمية، فإن نادي دول البحر الأبيض المتوسط (وأغلبية الدول الأخرى) باتت غير قادرة على توسيع التحفيز المالي لأنها أسرفت في الإنفاق خلال السنوات الأخيرة. سوف يتطلب الأمر التخلص من الاعتماد على الدولة والقطاع العام ليُترك المجال للاعتماد أكثر على الاقتصاد الكلي الذي يستمد قوته من القطاع الخاص، والأهم من ذلك الشركات الصغيرة والمتوسطة. أي بلد يتمتع بسجل طويل الأمد من النمو والنجاح هو مبني على الشركات الصغيرة والمتوسطة وتمكينها من الحصول على الائتمان. إذا توصلنا إلى حل ذلك، فإننا سوف نكون على بعد خطوتين من الاتجاه الصحيح.

للدول الأغنى في العالم -سويسرا وسنغافورة والدنمارك والسويد وألمانيا- تقاليد وتجارب قوية فيما يتعلق بشركات صغيرة ومتوسطة قوية. يجري الإتحاد الأوروبي باستمرار دراسات عن الشركات الصغيرة والمتوسطة في الاقتصاد، ووجد أنه في المتوسط تمثل الوظائف في قطاع الشركات الصغيرة والمتوسطة حوالي ثلثي الوظائف في الدول الغنية الشمالية؛ وإضافة إلى ذلك، فإنه من المذهل أن نجد أن 85% من الوظائف الجديدة التي استُحدثت بين عام 2002 و عام 2010 كانت من مجهود الشركات الصغيرة والمتوسطة. على أوروبا أن تتبنى وتستوعب هذا النهج والعمل على التخفيف من اعتمادها الكبير على الدولة والحجم المتزايد لبرامج الاستحقاق الخاصة بها. هذا هو التحدي الأكبر لأن الاستحقاق متى ما مُنح يصبح من الصعب جدا أن نسحبه مجددا، بصرف النظر عن كيفية عدم أحقيته في المقام الأول. إن موازنة التخفيض في الاستحقاق مع مساهمة حكومية أقل هي ما يحتاجه نادي البحر الأبيض المتوسط حقا لإحداث تغيير.

تستوجب الأزمة أيضا انتعاشا على شكل الحرف V ينخفض فيه النمو في البداية بينما يُعاد ضبط كل شيء،لكن النمو يستطيع فيما بعد القفز مجددا بقوة أكبر، لأن الاقتصاد سوف يكون عندئذ أكثر توازنا. ولتفسير هذا الأمر نلجأ للاستعارة الكلاسيكية لحريق في الغابة: نعم يكون هناك تدمير للأشجار والغطاء النباتي، إلا أن النار تقوي أيضا التربة وتعيد ضبط الطبيعة لتضعها في حالة أكثر خصوبة مع احتمال أكبر لنمو مستقبلي-كل ذلك هو جزء من دورة طبيعية.

يمثل المستجدون العنصر الثابت في دورات التاريخ؛ ويبقى "نهج المحاولة والخطأ" أسلوب العمل الذي يكفل المضي قدما. تعرضت إسبانيا كدولة للإفلاس 13 مرة في تاريخها، ولذلك فهي بمعية دول أخرى سوف تتمايل وتتقلب بين الفائض والتقشف ومن النمو إلى الأزمة ومن الرياح الدافعة إلى الرياح المعاكسة-كل ذلك كجزء من دورة، لكن كيفية رد فعل واستجابة الدولة لهذا التأرجح يحدد مسار النمو والتطور.

تجدون أدناه صيغتي لنموذج أزمة (لا تحتوي على البساطة الكاذبة- وقد أسميته نموذج أزمة جاكوبسن)

 
تبدأ أي حكومة دائما بالإنكار أن هناك أزمة-وهو الإنكار- ويدّعون أنه مؤقة وناتج عن عوامل خارجية. يكون الجواب السياسي خلق عجز في الميزانية (مثل أوروبا من 2008-2010).

بعد عام أو عامين يحدث بعض الاستقرار، إلا أن الأزمة تستمر لأن الديناميات الكامنة لم تتغير عبر أي تغييرات هيكلية حقيقية. يشعر الناخبون بالغضب جراء آلامهم المستمرة وبالتالي يصوتوا "للمعارضة" كردة فعل نَفْضَةِ ركبةٍ عنِ الأَزْمَة – ولدينا كشاهد على ذلك فوز هولاند و راخوي في الانتخابات وخروج برلسكوني وعلاوة على ذلك لدينا انتفاضة حفلة الشاي في سنة 2010. لقد قطعت الحكومة الجديدة على نفسها العديد من الوعود لكن حقيقة توليهم مناصبهم تبرهن على أنهم غير قادرون على القيام بأي تغيير لأنهم لايزالون عالقين في النموذج القديم، وبالتالي فإنهم بدلا من إحداث التغيير، فإننا بالكاد نرى أسعار فائدة أقل وتخفيضا في قيمة العملة وتسهيلات نقدية ضخمة للبنك المركزي. كانت هذه بصمات مرحلة الاعتراض في أوروبا عام 2011-2012.

الشيء الذي تحتاجة أوروبا فعلا لتتجاوز هذه الأزمة هو تفويض حقيقي بالتغيير-ولكن كما تعلمنا من التاريخ، فإن صناع القرار أو السياسة والسياسيين سوف يواصلون في إنكار الاعتراض والتظاهر ويعودون مجددا للإنكار في حلقة مفرغة حتى تكبر الأزمة بما يكفي للتمكين من تفويض بالتغيير.

كان التفويض الأخير الذي أعطي وأخذ من قبل سياسي على ما أذكر قد حدث في عام 1979 حين تولت السيدة تاتشر رئاسة الحكومة في المملكة المتحدة التي كانت تسمى آنئذ بالرجل المريض الأوروبي –وقاومت النقابات والاتحاد الأوروبي ونفذت تغييرات دراماتيكية في مجتمع المملكة المتحدة تزامنت مع تغيير في السلوك العقلي الذي هو القطعة الإيجابية الأخيرة في أحجية الأزمة.

وفي النهاية نرى نصف المجهود يخرج من الأزمة في تغيير للعقل-ماذا الذي يمكن لإقتصادي مزاجي أن يطلقه على التغلب على الكلفة الغارقة لطرق التفكير الماضية. ومتى ما اجتازت أغلبيتنا العقبة العقلية الخاصة بالإعتراف أن التغيير الحقيقي أمر ضروري،فإن التمرين على إنهاء الأزمة يصبح سهلا نسبيا حتى أنه يصبح منشطا. هناك نقطة مهمة أخرى، وهي أننا سوف نعيش في ديمقراطيات (حتى إذا لم يبد الأمر كذلك في بعض الأحيان) والذي يعني في النهاية أن صناع السياسة في بلداننا مدينون بالفضل لنا جميعا بصفتنا ناخبين وأنه بالنسبة لهم من أجل أن يحدث التغيير يجب أن نغير سلوكنا أيضا؛ وذلك يتطلب أن نكون على استعداد لرؤية تضحيات قصيرة الأمد ضرورية لمنح التفويض بالتغيير لزعمائنا والطريق التي علينا أن نسلكها. هل نحن على استعداد للتغيير؟ إذًا لا تخشوا الأزمة- استوعبوا أَرْجَحِيَّتَهَا.