لا يمكن اختزال قطاع الطيران في كونه مجرد وسيلة لنقل البشر، والبضائع عبر القارات، بل هو بمثابة الدورة الدموية للاقتصاد العالمي، وشبكة شريانية تضخ الحياة في عروق التجارة، والسياحة، والتبادل الثقافي، إن تأثيره يتجاوز بكثير حدود المطارات، ومسارات الطيران، حيث شكّل في عام 2023 ما يعادل اقتصاد الدولة العشرين على مستوى العالم، مساهماً بنحو 4.1 تريليون دولار في الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وداعماً لمنظومة وظائف هائلة تضم 86.5 مليون شخص. ومع ذلك، يقف هذا القطاع العملاق اليوم عند مفترق طرق تاريخي، محلقاً في سماء تبدو صافية للوهلة الأولى، لكنها تخفي وراءها اضطرابات عميقة، ففي الوقت الذي يستعد فيه القطاع لنقل أعداد ركاب قياسية تقارب 5 مليارات مسافر في عام 2025، في مشهد يعكس تعافياً قوياً بعد الجائحة، فإنه يفعل ذلك في ظل تباطؤ متوقع في نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
هذا التناقض الظاهري يكشف عن حقيقة جوهرية، وهي أن القوة التي يبديها القطاع حالياً هي "قوة هشة"، فالربحية المتوقعة لا تنبع من ازدهار اقتصادي عالمي متزامن، بل تستند إلى حد كبير على عوامل متقلبة، أبرزها انخفاض أسعار وقود الطائرات، هذه الهشاشة تتعمّق بفعل رياح معاكسة متعددة، من التوترات الجيوسياسية التي تعيد رسم خريطة الأجواء، إلى تحديات الاستدامة التي تفرض تكاليف باهظة، واختناقات سلاسل التوريد التي تكبح جماح النمو، وفي خضم هذا المشهد العالمي المعقد، تبرز قصة استثنائية من قلب الشرق الأوسط، حيث لا تكتفي المملكة العربية السعودية بالمشاركة في موجة التعافي، بل تطلق العنان لاستراتيجية وطنية جريئة لا تهدف فقط إلى بناء قطاع طيران محلي قوي، بل تسعى بشكل مباشر إلى إعادة تشكيل مركز الثقل في صناعة الطيران العالمية، مقدمةً بذلك سردية بديلة قائمة على الطموح، والاستثمار الاستراتيجي في مواجهة حالة عدم اليقين العالمي.
الأجواء العالمية والاضطرابات الاقتصادية
عند التعمق في الأرقام التي ترسم ملامح المشهد الاقتصادي لقطاع الطيران العالمي، تظهر مفارقة لافتة، فوفقاً لتوقعات الاتحاد الدولي للنقل الجوي (IATA)، من المنتظر أن تحقق شركات الطيران العالمية أرباحاً صافية بقيمة 36.0 مليار دولار في عام 2025، ما يمثّل تحسناً ملحوظاً عن أرباح عام 2024 البالغة 32.4 مليار دولار، هذا النمو في الربحية يبدو متناقضاً مع التوقعات التي تشير إلى تباطؤ نمو الاقتصاد العالمي إلى 2.5% في العام نفسه، إن المحرك الأساسي وراء هذه الظاهرة ليس انتعاشاً اقتصادياً شاملاً، بل هو انخفاض كبير في تكاليف التشغيل، وتحديداً في أسعار وقود الطائرات، حيث تشير التقديرات إلى أن متوسط سعر برميل وقود الطائرات سينخفض بنسبة 13% على أساس سنوي ليصل إلى 86 دولاراً في عام 2025، مقارنة بـ 99 دولاراً في عام 2024، وهو من شأنه أن يخفض فاتورة الوقود الإجمالية للصناعة بمقدار 25 مليار دولار.
ومع ذلك، فإن هذه الأرقام الإيجابية تخفي وراءها حقيقة أكثر قتامة، فهذه الأرباح، التي تبدو ضخمة، لا تمثّل سوى هامش ربح صافٍ ضئيل للغاية يبلغ 3.7%، أي ما يعادل 7.20 دولارات فقط لكل مسافر في المتوسط. هذا الهامش الضئيل يؤكّد على الطبيعة الحساسة والمتقلبة للقطاع، حيث يمكن لأي صدمة غير متوقعة في أسعار الطاقة أو تراجع في الطلب أن تمحو هذه الأرباح الهشة بسرعة، فالاعتماد على انخفاض أسعار سلعة متقلبة مثل النفط لتحقيق الربحية يكشف عن ضعف هيكلي بدلاً من قوة اقتصادية متأصلة، مما يجعل الصناعة في حالة تأهب دائم لأي متغيّرات قد تعصف باستقرارها المالي.
|
العام/الفترة |
القيمة |
المؤشر |
|
2023 |
4.1 تريليون دولار |
المساهمة في الناتج المحلي الإجمالي العالمي |
|
2023 |
86.5 مليون وظيفة |
الوظائف المدعومة عالميًا |
|
2025 |
ما يقارب 5 مليارات مسافر |
عدد المسافرين المتوقع |
|
2025 |
36.0 مليار دولار متوقع |
صافي أرباح شركات الطيران العالمية |
|
2024 |
32.4 مليار دولار |
صافي أرباح شركات الطيران العالمية |
|
2025 متوقع |
3.7% |
هامش الربح الصافي للقطاع |
|
2025 متوقع |
7.20 دولار |
متوسط الربح لكل مسافر |
الرياح الجيوسياسية المعاكسة وتصدعات سلاسل التوريد
بعيداً عن دفاتر المحاسبة، يواجه قطاع الطيران تحديات خارجية لا تقل خطورة، فالاضطرابات الجيوسياسية لم تعد مجرد أخبار عابرة، بل أصبحت عاملاً مؤثراً بشكل مباشر في تكاليف التشغيل اليومية، فالصراعات المستمرة أدت إلى إغلاق مساحات جوية حيوية، كما هو الحال فوق روسيا، ومناطق في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى، مما يجبر شركات الطيران على اتخاذ مسارات أطول وأكثر تكلفة، وهو ما يترجم مباشرة إلى زيادة في استهلاك الوقود، وتعقيدات في جدولة الرحلات وإدارة أطقم الطيران، هذه التكاليف الإضافية تضغط على هوامش الربح الضئيلة أصلاً.
|
القيمة المتوقعة |
المؤشر لعام 2025 |
|
2.06 مليار دولار |
حجم سوق وقود الطيران المستدام SAF |
|
2 مليون طن |
حجم الإنتاج |
|
0.7% فقط |
نسبة التغطية من إجمالي احتياجات الوقود |
|
أعلى بـ 4.2 مرة |
التكلفة مقارنة بالوقود التقليدي |
|
4.4 مليار دولار |
العبء المالي الإضافي على القطاع |
المسافر في حقبة ما بعد الجائحة والأثر المضاعف
على الرغم من كل هذه الرياح المعاكسة، يظل هناك جانب مشرق يتمثّل في قوة الطلب من جانب المستهلكين، فسلوك المسافرين في حقبة ما بعد الجائحة يظهر مرونة لافتة، حيث كشفت استطلاعات الرأي أن 40% من المسافرين يتوقعون السفر أكثر خلال الاثني عشر شهراً القادمة، وأن الرغبة في السفر لم تتأثر بشكل كبير بالمخاوف الاقتصادية، كما أظهر سفر الأعمال مرونة غير متوقعة، مدفوعاً بالحاجة إلى إعادة بناء العلاقات التجارية وجهاً لوجه، هذه الرغبة الكامنة في السفر هي التي تغذي محركات القطاع، وتدعم تعافيه، وهنا تبرز القيمة الحقيقية لقطاع الطيران كعامل تمكين اقتصادي ذي أثر مضاعف هائل.
|
ملاحظات |
القيمة |
المؤشر/القطاع |
|
يعمل كمحرك أساسي للسياحة والسفر الدولي. |
توفير أكثر من 330 مليون وظيفة |
دعم قطاع السياحة العالمي |
|
يشمل سلعًا عالية القيمة وحساسة للوقت |
نقل ما يقرب من 33% من قيمة التجارة العالمية جوًا |
دعم التجارة العالمية |
|
لعام 2023 |
8 تريليون دولار |
قيمة البضائع المنقولة جوًا |
|
يؤثر التأخير في التسليم على خطط التوسع والكفاءة |
17,000 طائرة |
طلبات الطائرات المتراكمة |
يضاف إلى هذه التحديات تعقيد آخر يتمثّل في الشبكة الكثيفة من القيود التشريعية والتنظيمية التي تحكم كل جانب من جوانب عمليات الطيران، فشركات الطيران تعمل ضمن إطار قانوني صارم تفرضه هيئات الطيران المدني الوطنية والدولية، هذه القوانين، التي تهدف بالأساس إلى ضمان أعلى معايير السلامة والأمن، تفرض تكاليف امتثال باهظة تتعلق بصيانة الطائرات، وتدريب الأطقم، وتحديث الإجراءات الأمنية.


