يواجه علم الاقتصاد والاقتصاديون في بعض الأروقة تهمة الوصف بالنخبوية “Elitism”، وهي تهمة منتشرة على نطاق واسع ولكن غير مبرر تعميمها. قد ترجع أسباب ذلك الى طريقة تقديمه وتدريسه في المعاهد والجامعات، ولاعتماده النماذج الرياضية، وأسلوب التجريد المتبع في تحليل السلوك البشري، واستخدامه مصطلحات ومفردات قد تكون غامضة لفئات من المجتمع. لقد سيطرت مدارس معينة لعقود على الفكر الاقتصادي الذي انبثقت منه سياسات اقتصادية تتبنى فلسفة "دعه يعمل دعه يسير" او تبني ألية السوق الحر حرفياَ كحالة عامة وكما يطبقها "خبراء" Experts متهمون ببعدهم عن معاناة الافراد العاديين. ولذا، فلا غرابة أن ينسب لجون مينارد كينز وهو أبرز ناقد لهذه الفلسفة مقولة "لو نجح الاقتصاديون في الظهور كأشخاص متواضعين واكفاء مثل اطباء الاسنان، فسيكون ذلك رائعا"!!!
الإيكونقراطية Econcracy
تحتوي اللغة العربية (كغيرها من اللغات الحية) على مفردات متداولة، ولكنها عُربت كما هو الحال في: الأرستوقراطية cracyAristo والديموقراطية cracyDemo والتكنوقراطية cracyTechno وغيرها من كلمات. تشترك هذه المفردات المعربة في تعبيرها عن مفهوم النخبويةElitism والسيطرةRule المعبرة عن توجيهات وأوامر Commands تصدر عن قمة الهرم إلى القاعدة.
تجدر الإشارة إلى أنه قد نشر كتاب في جامعة مانشستر البريطانية عام 2016، عنوانه: “The : the perils of leaving economics to the expertscracy”Econ وهو نفس العنوان الذي اخترناه لهذه المساهمة، من تأليف كل من: جو أيرل Joe Earle و كاهال موران Cahal Moran وزاك وارد بيركنز Zach Ward-Perkins ، يتضمن نقداً مباشراً للتوجه السائد في علم الاقتصاد.
اتهم الكتاب الاقتصاديين بأنهم نخبويون وبعيدون في طروحاتهم عن مصالح الافراد العاديين، وأن هذا التخصص تسيطر عليه فئات من "الخبراء" المؤثرين في السياسات الاقتصادية القائمة على نماذج رياضية
منغمسة في التجريد! كما يرى المؤلفون أن الاقتصاد كأيدولوجية عبارة عن نظام مغلق يسيطر عليه الخبراء المنفصلون عن عامة الناس، ولذا ثمة ضرورة لإشراك فئات مختلفة من المجتمع في القرارات الاقتصادية العامة وعدم تركها لسيطرة الخبراء.
ابتداءً، يمكننا أن نجتهد ونقترح ترجمة جديدة لمصطلح " Econcracy" المذكور في العنوان بنفس الطريقة التي سبق التطرق لها ليكون "الإيكونقراطية"، حيث أن الافتراض في الكتاب هو ان "الخبراء" هم جزء من النخب التي تفرض حلولاً تخدم مصالح طبقة معينة من المجتمع. هذه الكلمة المُستحدثة مشابهة لتلك الكلمات المعربة التي سبق ذكرها والتي تشترك معها بصفة النخبوية بمعناها الفوقوي الهرمي.
النخبوية Elitism
ان سمة النخبوية والفوقوية التي توصف بها بعض المدارس الاقتصادية الفكرية قد تكون استمدت جذورها من الفلسفة الفيزوقراطية cracyPhysio، والتي تُسمى بمدرسة الطبيعيين. ترى هذه المدرسة الفرنسية في بعض طروحاتها أن التعاملات والسلوكيات البشرية بما في ذلك السلوكيات الاقتصادية تخضع لقوانين علوية يفرضها حكم الطبيعة والتي منها استلهم أدم سمث فكرة "اليد الخفية". في نفس السياق نجد أن مصطلح "الكوربوقراطية" Corporatocracy بدأ في الانتشار في بعض الأوساط الناقدة، حيث يُعرّف على أنه: سيطرة الشركات الكُبرى على الممارسات التجارية، وبناء إمبراطورية عالمية تستخدم المنظمات المالية الدولية في فرض شروطها على الدول النامية وشعوبها المستضعفة.
ان المنطلق الرئيس لكتاب "الإكونقراطية"، يكمن في الاعتراض على الطرح النخبوي لعلم الاقتصاد، بالاستدلال بالطريقة التي يدرس بها غالباً في الجامعات الغربية مثل جامعة شيكاغو وجامعة كبمردج وغيرهما وتأثيرهم المعروف على التوجه العام لتخصص الاقتصاد. لذا تتجسد الإكونقراطية عملياً في هيمنة أيدولوجية لمدرسة فكرية معروفة (مثل المدرسة النيوكلاسيكية) على التوجهات السائدة في مؤسسات مثل صندوق النقد الدولي والذي توصف توصياته المفروضة على الدول بأنها قوالب مصممة للجميع " One Size Fits All “بغض النظر عن الفروقات الدولية والاجتماعية. خطورة الطرح النخبوي تكمن في تأثيره الكبير على السياسات الاقتصادية المطبقة، وبالذات في منهجية التعامل الصارمة مع الأزمات الاقتصادية والمالية العالمية.
يجدر التنويه الى أن علم الاقتصاد كنظرية يهدف الى التعامل مع التحديات الاقتصادية التي تواجه الافراد والمجتمعات بغض النظر عن مستويات دخولهم وليس فقط النخب منهم، ومع أن السياسات الاقتصادية تعتمد عملياً على وجود الخبراء إلا ان ذلك لا يتعارض مع تحقيق التقارب مع متطلبات فئات المجتمعات واشراكهم في الحوار الاقتصادي.
بالرغم من ان علم الاقتصاد يُدرس غالباً بطريقة تظهره كعلم حصري ونخبوي الا ان هذا التخصص الواسع ومواضيعه المتشعبة تهدف إلى تحقيق رفاهية المجتمعات والعمل على حل مشكلات صعبة مثل التوظف والتضخم والفقر وعدم المساواة والضرائب، كما يغطي نطاق واسع من السياسات العامة. لذا، فان اهتمام علم
الاقتصاد عملياً ليس مقصوراً على فئة معينة. كما أن مواضيعه أشمل من المال بمعناه الضيق، حيث تتعامل مع قضايا اجتماعية أساسية تتعلق بحياة الافراد والمجتمعات كالصحة والتعليم والبيئة والاستدامة.
خاتمة
تأسيساً على ما تقدم، يمكن القول إن وصف الاقتصاد بالنخبوية غير مبرر، ويتجاهل حقيقة أن الاقتصاديين أو من يوصفون بفئة "الخبراء" يأتون غالباً من خلفيات وطبقات اجتماعية متنوعة، مع الاعتراف بأن جلهم من الرجال ولكن هذا لم يمنع مؤخراً من تزايد اهتمام الدراسات الاقتصادية بمواضيع الجندرية والمساواة خصوصاً في مواضيع التوظيف والأجور.
وفي ظل التطور التقني والإعلامي الراهن ومع توفر مقررات الكترونية تُقدم عبر الانترنت، وكتب ونشرات توعوية ومنصات "البودكاست" وغيرها من القنوات المتخصصة والمتاحة للجميع، أصبح بإمكان المتخصصين بالاقتصاد بما في ذلك متخذو القرارات بالمشاركة في النقاشات الاقتصادية العامة وتبسيط النظريات العلمية والمفاهيم ونشر الوعي الاقتصادي لكافة أفراد المجتمع. ما سبق، يُعد بمثابة اختصاراً لجدل طويل وقديمٍ لم يُحسم بعد، ولا يُتوقع حسمه بصورة نهائية، بسبب تباين المصالح وتعارض الاهداف على مستوى الافراد والمؤسسات والدول ايضاً.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد رمضان 1446 هـ / مارس 2025 مٍ