مقدمة
ارتبط الاستثمار الأجنبي المباشر ارتباطاً وثيقاً بمراحل التطور الاقتصادي والسياسي والإجتماعي التي مرت بها دول العالم. نحاول في هذا المقال منافشة تاريخ الاستثمار الأجنبي المباشر.
تاريخ الاستثمار الأجنبي المباشر
نظراً لهيمنة الشركات متعددة الجنسية الأمريكية على الأسواق العالمية، والتي يصل قيمة أصول بعضها ما يفوق حجم الناتج المحلي الإجمالي لبعض الدول، هناك اعتقاد إن منشأ الاستثمار الأجنبي المباشر هو الشركات الأمريكية. ولكن هذا الاعتقاد يخالف ما تشير إليه بعض المخطوطات التاريخية. فقد ذكرت ويكلين (Wiklin) إن ظاهرة الاستثمار الأجنبي المباشر تعود إلى تاريخ الحضارة السومرية في 2500 قبل الميلاد عندما اتجهت بعض الشركات للاستثمار خارج الدولة السومرية. كما أن هناك بعض الوثائق تشير إلى أن الكنائس كانت تمتلك استثمارات خارج بلدانهم.
لا يوجد تاريخ دقيق يحدد بدء ظهور الشركات المتعددة الجنسية إلا أن هناك دلائل قوية تشير إلى أن ظهورها وانتشارها في مختلف مجالات الحياة ارتبط ارتباطاً وثيقاً بالتطور الذي حدث في القارة الأوربية منذ نشأة الرأسمالية التجارية وصولاً إلى الرأسمالية الصناعية التي نتجت عن الثورة الصناعية في منتصف القرن الثامن عشر.
ولكن قبل هذا الظهور قامت بعض الشركات الكبيرة من المملكة المتحدة وهولندا في القرن السادس والسابع عشر بالاستثمار في قارة آسيا والهند والولايات المتحدة الأمريكية. من أكبر الشركات في ذلك الوقت كانت الشركة الهندية الشرقية البريطانية (British East India) والشركة الهندية الشرقية الهولندية (Dutch East Indian Company، اللتان سيطرتا على أسواق القطن والتوابل والحرير في الأسواق العالمية. كما أخذ الاستثمار البريطاني والفرنسي في وقت لاحق بالتوسع في المناطق المستعمرة من أمريكا اللاتينية وآسيا وأفريقيا وأستراليا. وتركزت معظم هذه الاستثمارات في مجال التعدين والزراعة والخدمات العامة وذلك بغية استغلال الثروات الطبيعية التي تمتلكها الدول المضيفة (المستعمِرة) لخدمة اقتصاديات الدول الاستعمارية. كما قامت بعض الشركات باستثمار الأراضي في دول أجنبية. ومن أشهر هذه الشركات شركة فرجينيا البريطانية (British Virginia) التي انشأت مستعمرة بريطانية في ولاية فرجينيا في الولايات المتحدة الأمريكية وعملت على تنميتها. وتسارعت المشاريع المماثلة التي تمت من قبل شركات هولندية وفرنسية وسويدية. هذا يدل على إن الاستثمار الأجنبي المباشر ارتبط بالحقبة الاستعمارية والاستغلال الاقتصادي للدول المستعمِرة.
إحلال الآله محل الأيدي العاملة
ومن المُسلَم به أن الولادة الحقيقية للشركات متعددة الجنسية الحديثة في أوروبا يرجع إلى فترة قيام الثورة الصناعية في أوائل القرن التاسع عشر. ومن الأمثلة على ذلك كوكريل مصانع الصلب (Cockerill Steelworks) الانجليزية التي أقيمت في بروسيا (Prussia) والشركة باير Bayer الألمانية التي انشئت وحدات إنتاجية لصناعة المواد الكيماوية في الولايات المتحدة الأمريكية. فقد لعبت الثورة الصناعية التي حدثت دوراً رئيسا في تشكيل الشركات متعددة الجنسية. حيث ساهمت الاختراعات والابتكارات على إحلال الآلة محل الأيدي العاملة مما ساعد على زيادة الإنتاج في المجال الزراعي والصناعي. هذا التطور في الإنتاج سرعان ما انتقل إلى دول أوربية أخرى مثل فرنسا وألمانيا وايطاليا. ونتيجة للازدهار الاقتصادي الذي صاحب التغييرات في تركيبة الحياة الاقتصادية في تلك الدول ارتفع مستوى دخل الأفراد والذي أدى إلى الزيادة في الطلب على السلع والخدمات المختلفة.
ترتب على استخدام الآلات والمعدات في عملية الإنتاج إن زادت القوة الإنتاجية للمصانع بشكل كبير والذي أدى إلى ارتفاع معدل الأرباح مما شكل دافعاً مغرياً للاستثمار في المجالات الصناعية المختلفة فانجذبت الكثير من رؤوس الأموال إلى ذلك القطاع واستمر السوق بالتوسع. ونتيجة لزيادة الاستثمارات في القطاع الصناعي، أصبحت المصانع خصوصاً العاملة في صناعة المنسوجات القطنية واستخراج الفحم، تنتج كميات كبيرة من السلع تفوق حاجة الأسواق المحلية. ومن اجل تصريف الفائض من السلع وتعظيم الإرباح كان لابد من البحث عن أسواق جديدة في الخارج. دفع هذا الشركات أن تتجه نحو الأسواق العالمية لتسويق الفائض من السلع المنتجة. من خلال الوصول إلى الأسواق الأجنبية والاتصال المباشر بالمستهلكين استطاعت هذه الشركات من جمع المعلومات الكافية عن حاجات تلك المجتمعات وحجم الطلب فيها بالإضافة إلى الفرص الاستثمارية التي يمكن أن تزيد من أرباحها السنوية.
من أهم الصناعات التي ركزت عليها الشركات البريطانية في ذلك الوقت صناعة المنسوجات القطنية والحريرية، وبناء سكك الحديدية. فقد هيمنت انجلترا على هذه الصناعة في ذلك الوقت نظراً لامتلاك الشركات الإنجليزية مزايا نسبية ساعدتها على إنتاج السلع القطنية بأسعار تنافسية. فأولى تلك المزايا كانت ماكينات النسيج التي تُصنع في انجلترا. فالشركات الغير انجليزية كانت تتكبد تكاليف إضافية تتمثل في استيراد المعدات، بالإضافة إلى تكاليف الأيدي العاملة الفنية. فعلى سبيل المثال يقدر تكلفة شحن المعدات إلى الولايات المتحدة الأمريكية بحوالي 25 في المئة من قيمة تلك المعدات. ومن المزايا النسبية التي كانت تتمتع بها انجلترا أيضاً هي قرب مصانع النسيج إلى مناجم الفحم الذي ترتب عليه انخفاض تكلفة إنتاج الطاقة المشغلة للآلات والمعدات البخارية. كان التحدي الأساس بالنسبة إلى الشركات البريطانية هو كيفية خفض تكاليف الإنتاج بطريقة يسمح لها بالحفاظ على الحصة الأكبر من السوق العالمية للمنسوجات القطنية. ونظراً لارتفاع الأجور في انجلترا التي وصلت إلى عشرة أضعاف الأجور في الصين. ونظراً للمنافسة الشديدة التي واجهتها الشركات الانجليزية من الشركات الأخرى اتجهت الشركات الإنجليزية إلى نقل خطوط إنتاجها لدول تميزت بانخفاض أجور الأيدي العاملة.
نشأة الشركات المساهمة
مع نهاية القرن الثامن عشر حدث تطور كبير في الحياة الاقتصادية، ونتيجة لارتفاع الرفاه الاقتصادي في الدول الصناعية حلت الوحدات الاقتصادية الكبيرة محل المشروعات الفردية ونشأت الحاجة إلى رؤوس الأموال الضخمة لتمويل المشروعات. هذا بدوره أدى إلى البحث عن طرق أكثر فعالية لتمويل المشروعات الجديدة الذي ترتب عليه ظهور الشكل القانوني للشركات المساهمة بشخصيتها المعنوية المستقلة عن مُلاك المشروع. فقد قامت بعض الشركات الفرنسية والإنجليزية بإصدار أسهم وسندات للحصول على تمويل مالي يسمح لهم بالتوسع في الاستثمار.
هذا الأمر نتج عنه تغير هيكلي في ملكية الشركات وإدارتها. فأصبحت الشركات تدار عن طريق أفراد لا يملكون أصول الشركة (المدراء التنفيذيين) ومساهمين بالإضافة إلى مجلس الإدارة. ولكي يستمر المدراء في إدارة الشركة كان لابد من إحراز رضى المساهمين عن طريق زيادة الأرباح. نتج عن هذا التوجه الجديد ظهور شركات كبيرة احتكرت الأسواق. ومع تطور الشركات الصناعية وظهور الاحتكارات استطاعت بعض الشركات من تطوير علامتها التجارية التي مكنتها من منافسة الشركات الأجنبية الأخرى.
مبدأ التحرر الاقتصادي
مع مطلع العشرينات من القرن التاسع عشر ساد مبدأ التحرر الاقتصادي الذي نتج عنه نظام السوق أو العقيدة الليبرالية التي رفضت التدخل الحكومي في تنظيم وتوجيه الإنتاج. كما سادت بعض المعتقدات الكلاسيكية أهمها: أن العمل يجب أن يكون له سعره في السوق، وأن ايجاد المال يجب أن يخضع لآلية ذاتية، وأن السلع يجب أن تكون حرة في تنقلها من بلد لآخر من دون عوائق أو قيود (دعه يمر دعه يعمل). أثرت هذه المعتقدات على سوق العمل بشكل جوهري، حيث ارتفعت أجور العمال بمعدل تصاعدي في الدول الصناعية. كما ازدهرت التجارة الحرة بين الدول. ونتيجة لهذين الحدثين وبسبب حصول الشركات الأوربية على المعلومات الكافية عن الأسواق الأجنبية خصوصاً في الدول النامية، اتجهت أغلب الشركات للاستثمار خارج حدود أوطانهم بهدف تقليل تكاليف الإنتاج.
تخطي الحواجز الحمائية
لم تتدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بشكل كبير إلا في أواخر القرن التاسع عشر. وكان من أهم الدوافع الرئيسة للاستثمار خارج حدود دولة الأم يتمثل في تخطي الحواجز الحمائية التي وضعتها بعض الدول بدافع القومية، وارتفاع تكاليف نقل البضائع إلى الأسواق العالمية مما شكل عائقاً أمام نمو الشركات وجعلها غير قادرة على المنافسة. كما كان الأفراد في ذلك الوقت يفضلون السلع المنتجة محليا على السلع المستوردة من الخارج مما دعي بعض الشركات بنقل جزء من مصانعها لتلك الدول. ومع إنشاء السكك الحديدية وتطور عملية النقل واختراع التليغراف أصبحت عملية السيطرة والمراقبة على الشركات التابعة أمراُ سهلاً مما دفع الشركات إلى الاستثمار في مناطق بعيدة.
في أواخر القرن التاسع عشر بدأت الشركات الأمريكية متعددة الجنسية بالظهور وأخذت بالنمو من حيث الحجم والعدد. ومن أمثلة الشركات الأمريكية متعددة الجنسية في ذلك الوقت شركة سنجر (Singer) التي أنشأت لها عام 1867م مصنعا لصناعة ماكينات الخياطة في مدينة جلاسكو اسكتلندا، ومصانع تومسون- هيوستن (Thomson-Huston) الكهربائية، التي أنشئت في انجلترا عام 1892م. ومع نهاية القرن التاسع عشر أصبحت الشركات الأميركية من بين أكبر الشركات في العالم، من ضمن هذه الشركات شركة Rockerfeller’s Standard Oil وشركة فورد للسيارات. وساعد كبر حجم السوق الأمريكية، الشركات الأمريكية من اكتساب مهارات مثل مهارات الإنتاج العالي والتسويق، واستغلال وفورات الحجم. كما لعبت العوامل الثقافية والجغرافية والسياسة الحكومية الرامية إلى زيادة نشاط الشركات متعددة الجنسية الأمريكية دوراً كبيراً في زيادة حجم هذه الشركات إقليما ودولياً.
الحرب العالمية والكساد العظيم
مع مطلع القرن العشرين كان الرصيد العالمي المتراكم من الاستثمار الأجنبي المباشر يقدر بحوالي 15 مليار دولار، وكانت المملكة المتحدة حينذاك المصدر الأكبر للاستثمار الأجنبي المباشر تليها الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا، وكانت أمريكا أكبر متلق للاستثمار الأجنبي المباشر.
ما بين الحربين العالميتين الأولي والثانية لم تنمو تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر بشكل كبير بسبب الدمار الذي سببته الحرب العالمية الأولى والتهديد بحرب أخرى. ففي تلك الفترة مارست بعض الدول تميزاً واضحاً ضد الأجانب، كما أدت الحرب العالمية الأولى إلى اضطرر الشركات متعددة الجنسية الأوروبية إلى بيع استثماراتهم التي كانت في حوزتهم قبل الحرب. كما أثرت الاضطرابات السياسية أيضاً على الأنشطة التجارية والاستثمارية عبر الحدود. ومن العوامل الأخرى التي قادت إلى تراجع تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر هو الكساد العظيم (The Great Depression) الذي حدث عام 1929م، والارتفاع الكبير في معدلات التضخم في أوروبا. في عام 1938م بلغ الاستثمار الأجنبي المباشر حوالي 66 مليار دولار، وقد توجهت أكثر من نصف تلك الاستثمارات إلى الدول النامية ولاسيما دول أمريكا اللاتينية وآسيا وكان معظمها في قطاعي الزراعة والتعدين بالإضافة إلى قطاع البنية الأساسية.
وبسبب الحرب العاليمة الثانية تعرضت اقتصاديات الدول المشاركة في الحرب لهزات عنيفة أدت إلى ركود اقتصادي عالمي كبير. أدى هذا إلى قيام الدول الصناعية للدخول في "حرب عملات" حيث سعت أغلب الدول التي عانت من ركود اقتصادي لخفض عملتها أمام العملات العالمية الأخرى بهدف زيادة الطلب على منتجاتها في الأسواق الخارجية. في عام 1944م وبهدف تأمين الاستقرار المالي والنمو الاقتصادي العالمي، عقد إجتماعاً في مدينة بريتون وودز الأمريكية في محاولة لايجاد نظام نقدي دولي جديد يعيد التوازن في موازين المدفوعات للدول المتأثرة والنقص في السيولة النقدية في النظام المالي العالمي. هذه الجهود نتج عنها ولادة صندوق النقد الدولي والبنك الدولي للانشاء والتعمير في عام 1946م. وفي عام 1947م أُبرمت الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة.
مشروع مارشال الأمريكي
بعد انهاء الحرب العالمية الثانية، بدأت موجة جديدة من الاستثمار الأجنبي المباشر بالظهور، ولكن هذه المرة كانت مصدرها الولايات المتحدة الأمريكية التي خرجت منتصرة من الحرب. ولإعادة أعمار الدول الأوربية واليابان التي تضررت من الحرب جاء مشروع مارشال. هذا بدورة حفز رؤوس الأموال الأمريكية بالتدفق إلى قارة أوروبا واليابان. فقد استطاعت الشركات الأمريكية من الاستحواذ على أغلب الشركات الأوربية القائمة. كما ساهمت عوامل أخرى لظهور هذا الموجة أهمها التحسن التكنولوجي في أنظمة الاتصالات ووسائل النقل والاستقرار الاقتصادي والسياسي الذي شهده العالم، والتوجه نحو إقامة وتشكيل التكتلات الاقتصادية والتجارية بين الدول، وتبني سياسات اقتصادية أكثر تحريراً من قبل بعض حكومات الدول المضيفة. هذه الأسباب جعلت الشركات متعددة الجنسية الأمريكية تهيمن على عملية تدويل الإنتاج والسيطرة على الأسواق العالمية. في المقابل، لم تتمكن الشركات الأوروبية من مجارة الشركات الأمريكية بسبب عدم توفر الأموال للازمة لتمويل عملية الإنتاج بالإضافة إلى توقف الدعم المالي التي تقدمة حكومات تلك الشركات، التي كانت تعاني من آثار الحرب العالمية الثانية.
في تلك الفترة تغير نمط تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر، حيث تراجعت سيطرة الشركات متعددة الجنسية البريطانية وأصبحت الشركات متعددة الجنسية الأمريكية المصدر الرئيس للاستثمار الأجنبي المباشر. كانت المملكة المتحدة أكبر متلقي للاستثمارات الأمريكية، وذلك بسبب اللغة المشتركة والترابط التاريخي الوثيق بين الدولتين الذي سهل عملية التواصل بين الأطراف. كما تُعتبر المملكة المتحدة حلقة الوصل للسوق الأوربية. وأصبح الاستثمار الأجنبي المباشر في الصناعات التحويلية أكثر الأنواع شيوعاً. واستمر تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الأمريكي إلى بريطانيا والدول الأوربية بنفس الوتيرة في عقد الخمسينات. فمع قيام السوق الأوربية المشتركة عام 1957م من خلال توقيع معاهدة روما بين ست دول أتاحت فرصة ذهبية أخرى للشركات الأميركية لكسب مزيد من الأرباح من خلال زيادة الاستثمار المباشر في تلك الدول.
مع الحضور الكبير للشركات الأمريكية في الأسواق الأوروبية، تمكنت الشركات الأوروبية من الحصول على التقنية والتكنولوجيا المستخدمة من قبل نظيراتها الأمريكية والتي ساعدتها على النهوض مرة أخرى. فمن خلال تواجد الشركات الأمريكية في تلك الأسواق، تمكنت الشركات الأوربية من تطوير مزاياها النسبية التي مكنتها من إنتاج سلع وخدمات بمستوى من الجودة قريب جداً من تلك السلع المنتجة من قبل الشركات الأمريكية. ومع تحسن مستوى إنتاج الشركات الأوربية استطاعت من خلق طلب على سلعها في السوق الأمريكية. هذا ساعد على تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر الأوروبي إلى الولايات المتحدة الأمريكية. كانت الولايات المتحدة الأمريكية الخيار الرئيس لموقع لشركات الأوروبية بسبب التقدم التكنولوجي والتقني وحجم السوق الكبير بالإضافة إلى ارتفاع المستوى المعيشي في المجتمع الأمريكي.
استراجية إحلال الواردات
في عقد الخمسينات والستينات من القرن العشرين، اتبعت بعض الدول النامية خصوصاً في أمريكا للاتينية استراتجيه إحلال الواردات التي قادت إلى التركيز على تنمية الصناعات المحلية بدلاً من استيراد السلع من الدول الصناعية. ولحماية الصناعات المحلية الناشئة، قامت هذه الدول بوضع الحواجز الحمائية متمثلة في الرسوم الجمركية وغير الجمركية. كما سادت بعض الأفكار السلبية نحو الاستثمار الأجنبي المباشر مثل التأثير السلبي على الشركات المحلية وخلق تبعية اقتصادية بالإضافة إلى التدخل في الشأن السياسي الحكومي للدول المضيفة، والذي أدى إلى فرض قيود على حركة رؤوس الأموال الأجنبية عبر الحدود. فقد فرضت بعض الدول ولغرض الحصول على التكنولوجيا المستخدمة من قبل الشركات متعددة الجنسية قيوداً على الملكية. بحيث لم تسمح بعض الأنظمة تملك الشركات الأجنبية للمشاريع على أراضيها أو أنها لابد من مشاركة مستثمر محلي. أدت هذه العوامل بشكل عام إلى انخفاض تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر للدول النامية. ولكن ظهرت موجة أخرى من تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر التي حاولت الدخول إلى الأسواق التي اتبعت إستراتجية أحلال الواردات وذلك بالاستثمار في هذه الصناعات من خلال علمية عرفت باسم "تخطي الحواجز الجمركية".
إلغاء اتفاقية بريتون وودز
مع إعلان الولايات المتحدة الأمريكية رسمياً بإلغاء اتفاقية بريتون وودز والتي ترتب عليها فك ارتباط الدولار الأمريكي بقاعدة الذهب عام 1971م ارتفعت أسعار النفط بشكل كبير. فقد ارتفع سعر برميل النفط من حوالي 4 دولار إلى 12 دولار بين 1973 و 1975م. هذا الارتفاع شجع رؤوس الأموال الأجنبية على الاستثمار في قطاع التعدين. ترتب على هذا زيادة تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الدول التي تمتلك موارد نفطية كبيرة مثل دول الخليج العربي أو دول منظمة الأوبك بشكل عام. في هذه الفترة كانت الدول النامية خصوصاً في إفريقيا وأمريكا اللاتينية بحاجة إلى رؤوس أموال كبيرة لتمويل عملية التنمية. ونتيجة لارتفاع أسعار النفط أصبح لدى الدول المصدرة للنفط فوائض ماليه ضخمة تم أيدعها لدى المؤسسات المالية العالمية على شكل ودائع واستثمارات قصيرة وطويلة الأجل. هذه السيولة المالية أخذت طريقها إلى الدول النامية على شكل قروض سيادية عن طريق البنوك العالمية. ترتب على ذلك أن أصبحت الدول النامية أكثر اعتماداً على تلك القروض وأقل اهتماماً باجتذاب الاستثمار الأجنبي المباشر لتمويل عملية التنمية مما دفع بعض الحكومات بوضع قيود غير تحفيزية على المستثمر الأجنبي المباشر، مما ادى إلى انخفاض تدفق الاستثمار الأجنبي المباشر للدول النامية مرة أخرى.
تفاقم مشكلة المديونية الخارجية
في أوخر السبعينيات حدث ركود اقتصادي في بعض الدول المتقدمة (اليابان، والولايات المتحدة الأمريكية) مما أثر على حجم وقيمة صادرات الدول النامية لهذه الدول. مع انخفاض صادرات الدول المقترضة، دخلت هذه الدول في مشكلة عدم مقدرتها بالوفاء بمديونيتها. مع تفاقم مشكلة المديونية الخارجية عام 1982م، عندما قامت بعض الدول كالمكسيك والأرجنتين وفنزويلا بالتوقف عن دفع أعباء ديونها الخارجية، وما تبعها بعد ذلك بمطالبة بعض الدول بإعادة جدولة ديونها الخارجية، انحسرت القروض الممنوحة للدول النامية من مؤسسات الإقراض الدولية. أدى هذا التحول إلى توقف برامج التنمية في تلك الدول نتيجة لشح الموارد المالية. ولمساعدة الدول على سداد مديونيتها، جاء تدخل صندوق النقد والبنك الدوليين ببرنامج إصلاحي أطلق عليه "برنامج التكييف الهيكلي" (Structural Adjustment) الذي هدف إلى إرساء مقومات آلية اقتصاد السوق وما تبعة من برامج خصخصة القطاع العام، وتحرير التجارة الخارجية، وتشجيع الاستثمار الأجنبي وتحرير القطاع المالي، وإصلاح النظام الضريبي، وتغير نظام سعر الصرف القائم، وبعض الإصلاحات القانونية والتشريعية التي رمت إلى خلق مناخ استثماري مناسب.
انهيار النظام الاشتراكي
عندما انهار النظام الاشتراكي في أواخر القرن العشرين، وخاصة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي في 1991م وتحول الدول الاشتراكية السابقة إلى اقتصادات السوق، كان له تأثير كبير على تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة إلى هذه البلدان. هناك عدة جوانب رئيسية لهذا التأثير. فقبل انهيار النظام الاشتراكي، كانت الدول الاشتراكية تعتمد على النظام المركزي في إدارة الاقتصاد، حيث كانت الدولة تسيطر على جميع وسائل الإنتاج. وكان هذا النظام يحول دون تدفق الاستثمارات الأجنبية بسبب القيود المفروضة على التجارة وحقوق الملكية، كما أن بيئة الأعمال لم تكن مشجعة للمستثمرين الأجانب.
ولكن بعد انهيار النظام الاشتراكي، بدأت هذه الدول في تبني سياسات اقتصادية جديدة تعتمد على اقتصاد السوق المفتوح. بدأت في خصخصة الشركات المملوكة للدولة، وفتح الأسواق أمام القطاع الخاص. كما بدأت العديد من الدول في الانضمام إلى المؤسسات الاقتصادية الدولية مثل منظمة التجارة العالمية و صندوق النقد الدولي. هذه الانضمامات سهلت التبادل التجاري وأدت إلى توفير بيئة قانونية وتنظيمية متوافقة مع المعايير الدولية. أصبح من الممكن للشركات الأجنبية التنافس في الأسواق المحلية، مما زاد من التنافسية داخل هذه الدول، مما أسهم في تنمية قطاعات جديدة وزيادة النمو الاقتصادي. هذا التحول جذب المستثمرين الأجانب الذين كانوا مترددين في الدخول إلى أسواق مغلقة وغير مرنة. من أوائل الدول التي شهدت زيادة كبيرة في تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة بعد انهيار النظام الاشتراكي هي بولندا والمجر وجمهورية التشيك، فقد استقطبت هذه الدول استثمارات ضخمة في الصناعات التحويلية والتكنولوجيا والخدمات.
الثورة المعلوماتية
مع التطورات السريعة في التكنولوجيا والاتصالات في أواخر القرن العشرين ظهرت موجة جديدة من تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة وبمعدلات متزايدة فاقت النمو في المجموعات الاقتصادية الأخرى مثل الإنتاج العالمي وتكوين رأس المال الثابت والتجارة الدولية. ساهم التقدم والتغير التكنولوجي الهائل خاصة في مجال الاتصالات وسرعة انتقال المعلومات في تقليل تكاليف النقل والاتصال. هذا دفع الشركات الأجنبية خصوصاً الباحثة عن تحقيق الكفاءة في البحث عن فرص استثمارية جديدة في الأسواق العالمية. فمن أهم العقبات التي كانت تواجه الشركات متعددة الجنسية هي عملية الإشراف والرقابة على الشركات التابعة العاملة في دول بعيدة جغرافياً عن بلد الأم للشركة. ففي عام 2000م وصلت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر إلى رقم قياسي قدرها 1.4 تريليون دولار، وليرتفع إلى مستوى قياسي أخر في عام 2015م ليصل إلى 2.1 تريليون دولار. وبسبب تفشي فيروس كورونا "والأغلاق الكبير" والتي تسبب في حالة من عدم اليقين حول آفاق الاقتصاد العالمي تراجعت تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر خلال 2020 لتصل إلى 960 مليار دولار.
.....يتبع
خاص_الفابيتا