تسعى المملكة العربية السعودية سعياً حثيثاً في بناء وتطوير اقتصادها، والاستثمار القوي والنوعي أداة للتحقيق. تم تطوير استراتيجية وطنية قائمة على رفع حجم وكفاءة الاستثمارات في المملكة، مستغلة كل فرصة سانحة. والهدف العام إحداث تحفيز قوي للنمو الاقتصادي تماشياً مع رؤية المملكة 2030 في مختلف القطاعات ذات الأولوية مع إسناد دور أكبر إلى القطاع الخاص المحلي والأجنبي، ووفق النشرة الربعية لبيانات الاستثمار الأجنبي المباشر الصادرة من وزارة الاستثمار وصل صافي الاستثمار الأجنبي الى 86 مليار ريال عام 2023م. كما أن رصيد الاستثمار الأجنبي المباشر حسب القطاعات وصل إلى قرابة 900 مليار ريال في العام الماضي 2023. يلاحظ أن أرصدة كل القطاعات باستثناء الأنشطة العقارية في تزايد وبعضها تزايد بنسبة أعلى من بعض. كما أنه تمر سنوات تضعف فيها الزيادة أو قد تنخفض في سنوات بعينها لأسباب عديدة، مثل تفاوت نسبة التضخم في القطاعات، وأوضاع بلدان المستثمرين، ومدى حاجتهم في تلك السنة إلى المال للتطوير أو التوسع في أنشطتهم، ومدى ريحية القطاع ومقارنة ربحيته بربحية قطاع آخر، وهكذا.
تتركّز أهمية جذب الاستثمار الأجنبي على القطاعات المستندة ليس على وفرة المال، ولكن على التقنية الحديثة أكثر من غيرها. ولذا يدخل في ذلك الدفع بصورة أكبر وأقوى تجاه اكتساب المملكة وشبابها للمعرفة والخبرات الأجنبية العالية المستوى في مختلف المجالات وخصوصاً التقنية. ومن الركائز الأساسية في هذا الاتجاه تشجيع الاستثمار الأجنبي، وخصوصاً تشجيع الشركات العالمية على الاستثمار النوعي، وعلى جعل مقارها ومراكزها الإقليمية على مستوى الشرق الأوسط والعالم العربي تنتقل إلى السعودية، ضمن استراتيجية مدروسة.
إن الحوافز كثيرة، والفرص واعدة لبناء علاقات قوية مع شركات عالمية بما ينفع الطرفين الدولة المستضيفة (المملكة) والشركات الأجنبية. فأولًا: الاقتصاد السعودي هو أكبر اقتصاد إقليمي، ومتوسط دخل الفرد مرتفع. ثانياً: بيد الدولة عدة خيارات تحفيزية من دعم، وتسهيلات، وإعفاءات، وغيرها. ويقود الحملة صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء. وظهرت الحملة جلية في عدة أحداث كاللقاء السنوي لمستقبل الاستثمار الذي ينظّم سنوياً كل شتاء عادة. وأنشئت له مؤسسة مبادرة مستقبل الاستثمار.
من المهم القول: إن تعزيز الاستثمار الأجنبي ليس هدفه الأول الحصول على المال، فالبلاد بحمد الله غنية وهي داعم كبير للمحتاجين في العالم، وخصوصاً في العالمين الإسلامي والعربي. الهدف الأكبر يصب في خدمة تحقيق رؤية 2030 من خلال ترسيخ وتقوية جهود التطوير والتنمية الاقتصادية في البلاد عبر نقل وتوطين نوعي للتقنية والخبرات والمهارات. ووجود قوي راسخ لتلك الشركات العالمية في البلاد، وبما تملكه من تقنية وخبرات، ومعلومات عن الأسواق الخارجية، يسهم في تحقيق النقل والتوطين بأعلى كفاءة وسرعة ممكنتين. ويسرع من ذلك ما نشهده من انفتاح اقتصادي كبير في البلاد.
تستهدف بعض الدول الشركات العالمية، وعلى رأس الأهداف لديها تحسين ورفع جودة في اقتصادها، مما يتطلب منا التطرق لآثار الاستثمار الأجنبي على الدول. هذه الآثار يمكن حصرها فيما يلي:
1. تطوير التشريعات والتنظيمات الحكومية.
2. الاستثمار في قطاعات صناعية وإنتاجية متعددة.
3. تحسين دور القطاع الخاص في العملية الإنتاجية الوطنية.
4. تحسين إنتاجية شباب الدولة المستضيفة.
5. تطوير المنشآت الصغيرة والمتوسطة.
لكن ما مدى تحقق هذه الأهداف؟ أو بعبارة أخرى، ما قوة تأثير الاستثمار الأجنبي في عملية النمو الاقتصادي في الدول المستضيفة؟
تحتاج الإجابة على هذا التساؤل إلى تمحيص واختبارات باستخدام أدوات معيارية تجريبية موضوعية معروفة لدى الاقتصاديين كأدوات الاقتصاد القياسي. إن وجود علاقة قوية وتأثير قوي بين الاستثمار الأجنبي المباشر والنمو الاقتصادي مسألة مفهومة، ولكن الطموحات في تحقيق فهم أعمق لماهية وبنية هذه العلاقة يساعد على تصنيف وتمييز بعض محددات الاستثمار الأجنبي المباشر، وآثارها الاقتصادية بصورة أدق.
على سبيل المثال، انتهت بعض الدراسات إلى أن الشركات متعددة الجنسيات غالباً أفضل في الوصول إلى الأسواق الخارجية ودعم التصدير، مقارنة بالشركات المحلية للدولة المضيفة. والتبرير أن تلك الشركات المتعددة الجنسيات تملك قنوات خارجية ومهارات تسويقية أفضل بصفة عامة. لقد بيّنت دراسات عديدة وجود تأثير واضح لتلك الشركات الأجنبية على نمو إنتاجية عوامل الإنتاج، كما بيّنت دراسات أخرى أثراً قوياً في زيادة المنافسة في الأسواق المحلية.
إن تأثير الاستثمار الأجنبي على النمو الاقتصادي يكون مباشراً وغير مباشر. إن التأثير المباشر يعتمد كثيراً على القدرة الاستيعابية للبلد المضيف، وعلى مستوى المساهمة في تكوين رأس المال الثابت الكلي. من أمثلة الآثار المباشرة أنه يزيد الطلب على التمويل في السوق المحلي، ولكن تأثيره على رفع تكاليف التمويل من عدمه يعتمد على حجم المعروض من الموارد المحلية، وهذا التأثير في حالة المملكة من المتوقع أن يكون غير موجود لعدم وجود شح في هذا الجانب.
من الآثار غير المباشرة المحتملة أنه يحل الاستثمار الأجنبي في حالات بعينها محل استثمارات محلية بصورة قد تكون مرغوبة، وقد تكون غير مرغوبة، وهذا الأمر يتطلب دراسة تفاصيل كل حالة بعينها.
للاستثمار الأجنبي تأثيرات على التعاون والتكامل الاقتصادي بين الدول. بعبارة أخرى، الدول تجد نفسها أمام تحديات متزايدة، نظراً للتطورات التقنية وغير التقنية. ولذا فالتحديات قد تجر هذه الدول إلى تكتلات، بصفتها وسيلة حماية قوية لمواجهة التحديات.
وللاستثمار الأجنبي المباشر تأثيرات على مساعي التطوير والتنويع الاقتصادي، حيث: إن التأثيرات قد تصب في اتجاه ما هو مرغوب فيه كثيراً، وقد تصب تجاه ما الرغبة فيه أقل. ولذا فإن الاستثمار الأجنبي ليس معصوماً من الزلل، فقد يجنح مستثمرون أجانب إلى استيراد متطلبات استثمارهم من الخارج رغم توفرها محلياً، وهذا يزيد من فاتورة الواردات. من جهة أخرى، قد يتسبب الاستثمار الأجنبي في حالات خاصة في مزاحمة الاستثمار المحلي، بدلاً من تشجيعه.
ما سبق يبيّن أن دور ومدى جودة الاستثمار الأجنبي تتأثّر بعوامل عديدة على رأسها طبيعة وظروف وإمكانات الدولة من جهة، والشركات الأجنبية ومدى اهتمامها بنقل التقنية وتطويرها محلياً من جهة مقابلة. وهذه الأمور هي محل اهتمام استراتيجية الاستثمار السعودية المعلنة حديثاً، ولعله تبنى معايير للنظر في مدى قوة تحققها. وتستهدف استراتيجية الاستثمار، كما جاء في موقع وزارة الاستثمار، أولاً: مضاعفة تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر قرابة 20 ضعفاً، لتزيد على 380 مليار ريال سعودي في عام 2030، وثانياً: الاستفادة من مساهمتها القوية في التطوير النوعي والتقني خاصة.
ختاماً.. التساؤل الآن هو ما هي الطريقة المتبعة للوصول إلى الأهداف المبتغاة؟ هناك ركائز يأتي في مقدمتها باختصار توليد الفرص الاستثمارية، وتنويع الخيارات بمختلف أشكالها، وبناء بيئة استثمارية محلية جاذبة وتنافسية.
المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد ديسمبر 2024