ما حقيقة طباعة النقود؟

12/01/2025 0
د. فهد الحويماني

أبدى أغنى رجل في العالم -إيلون ماسك- في تغريدة له قبل أيام إعجابه بما طرحه "بيير بوليفيري"، زعيم المعارضة في كندا، الذي شبه طباعة النقود باقتصاد فيه 10 حبات تفاح، سعر كل تفاحة دولار واحد، والنقود في هذا الاقتصاد فقط 10 دولارات، ثم أوضح أنه لو ارتفع المعروض النقدي إلى 20 دولاراً فإن سعر التفاحة سيرتفع إلى دولارين، ما يعني تضخما في الأسعار بسبب طباعة النقود. الفكرة البسيطة هذه مفيدة لفهم تأثير طباعة النقود لغير المختصين في الاقتصاد الكلي، والفكرة تتسق مع نظرية كمية النقود التي تقول ببساطة إن هناك كفتي ميزان، الكفة اليمنى هي الناتج المحلي الإجمالي (التفاح في هذه الحالة) والكفة اليسرى هي السيولة في الاقتصاد (10 دولارات هنا)، وهاتان الكفتان متساويتان في جميع الأوقات، وأي اختلال فيما بينهما يجب تصحيحه بشكل أو آخر، فإلى أي مدى يمكن الأخذ بهذا التشبيه في تفسير ظاهرة طباعة النقود؟

كأي تشبيه آخر هناك تبسيط كبير لعوامل اقتصادية متشابكة ومعقدة، فما ذكره السياسي الكندي صحيح إلى حد كبير في توضيح مفهوم التضخم كظاهرة نقدية، لكن التضخم يحدث لأسباب أخرى غير زيادة المعروض النقدي وتآكل القوة الشرائية للنقود، وبشكل عام كلامه صحيح، إن زيادة المعروض النقدي دون زيادة موازية في الإنتاج تنتج عنها ارتفاع الأسعار، ويمكن استيعاب ذلك بسهولة من خلال النظر إلى كفتي الميزان في نظرية كمية النقود، فالجهة اليمنى عبارة عن سلع وخدمات مضروبة في أسعارها، وفي الجهة اليسرى المعروض النقدي مضروب في سرعة دوران النقود. لذا في حال ارتفاع المعروض النقدي كما يحدث في حال طباعة النقود فلا بد من حدوث تغيرات في العوامل الأخرى لبقاء كفتي الميزان متساويتين، فإما أن ترتفع كمية السلع والخدمات لاستيعاب السيولة الجديدة، أو أن ترتفع الأسعار فيحدث التضخم، أو أن يحدث في الكفة اليسرى انخفاض في سرعة دوران النقود فتمتص زيادة المعروض النقدي، والمقصود بسرعة دوران النقود وتيرة الحركة الاقتصادية.

لذا فمثال اقتصاد التفاح يفترض أن زيادة النقود تتم بمعزل عن العوامل الأخرى، وهذا غير صحيح لأن طباعة النقود أو ضخ السيولة في الاقتصاد يحدث لأسباب عديدة كالحاجة إلى مد البنوك بالسيولة اللازمة ودعم النشاط الاقتصادي، أي أنه في الظروف الطبيعية والصحية تحدث طباعة النقود بسبب زيادة الإنتاج (الكفة اليمنى)، فإما أن يرتفع المعروض النقدي في الكفة اليسرى أو تزداد سرعة دوران النقود لموازنة تلك الزيادة في الإنتاج، وإن لم يحدث ذلك فلا بد للأسعار في الكفة اليمنى أن تنخفض لتزيل مفعول زيادة الإنتاج. أما في حال زيادة المعروض النقدي نتيجة خفض أسعار الفائدة أو أي من عمليات البنك المركزي المؤثرة مع بقاء الناتج الاقتصادي كما هو، والذي يحدث في حال بلوغ الاقتصاد أقصى طاقته الإنتاجية، ودون تغير في سرعة دوران النقود، فلا بد للأسعار أن ترتفع في الكفة اليمنى وهذا ما يعرف بالتضخم النقدي، وفي هذا الحالة يكون تشبيه السياسي الكندي سليما.

طباعة النقود من قبل البنك المركزي تؤثر مباشرة في المعروض النقدي، لكنها ليست العامل الوحيد المؤثر في المعروض النقدي، فهو يرتفع في حال زيادة النشاط الائتماني حين تقوم البنوك بعمليات إقراض للناس والشركات، أو في حال زيادة الصادرات كون ذلك يؤدي إلى الحصول على العملة الأجنبية التي يصدر مقابلها البنك المركزي مزيدا من النقود الوطنية. أما سرعة دوران النقود فهي معنية بقياس الحركة الاقتصادية، فكلما زادت عمليات البيع والشراء في الاقتصاد زادت سرعة دوران النقود، وتاريخياً في الولايات المتحدة الأمريكية سرعة دوران النقود في حدود 1.75، أي إن كل دولار في المعروض النقدي يستخدم أقل من مرتين في العام، وارتفعت هذه السرعة إلى 2.2 في أواخر التسعينيات وانخفضت إلى 1.1 مباشرة إثر اندلاع أزمة كورونا، وهي الآن 1.4، لذا فطباعة النقود يمكن امتصاصها بشكل كامل بتغيير سرعة دوران النقود، أي خفض وتيرة النشاط الاقتصادي الذي يحدث في حال الركود الاقتصادي، وهذا يفسر سبب محاولات الفيدرالي الأمريكي -غير المعلنة- للسيطرة على النشاط الاقتصادي، وعدم ارتياحه من ارتفاع مستوى التوظيف في البلاد، كون ذلك يزيد من سرعة دوران النقود ويؤدي إلى تضخم الأسعار.

 

 

نقلا عن الاقتصادية