قبل العاصفة ... من هلسنكي

31/08/2024 4
اسلام زوين

في إحدى قاعات الاجتماع في نيويورك، اجتمع عدد من كبار محللي وول ستريت يتبادلون النظرات الحذرة وهم يراقبون عرض البيانات المالية للمحلل المالي هوراس ديديو ... وهو يتحدث عن أحدي الشركات تحت التغطية. كان الجميع يتساءل: "كيف يمكن لشركة تمتلك حصة الأسد في سوق أن تكون في خطر؟". بين الأرقام المذهلة والنسب المئوية البراقة، بدأ أن التفاصيل الصغيرة التي يلاحظها هوراس تتفق مع محلل مالي آخر يدعي "بن- وود"، ليلحظا إشارات متزايدة لتباطؤ الابتكار وتأخر في التكيف مع التحولات التكنولوجية السريعة، في هلسنكي، الحفل كان مفعماً، كان رئيس الشركة التنفيذي يعلن بفخر عن نتائج الشركة المالية، غير مدرك أن التحليل الدقيق في الجانب الآخر من المحيط بدأ يكشف عن قصة مختلفة، قصة تحذير من عاصفة لم تكن قد ضربت بعد.

عندما قررت نوكيا الإدراج المزدوج في بورصتي نيويورك وهلسنكي، كان الهدف توسيع قاعدة المستثمرين وزيادة الشفافية. لكن هذا الإدراج، الذي تطلب الإفصاح عن المزيد من البيانات المالية والأداء التشغيلي، لم يكشف فقط عن قوة الشركة في سوق الهواتف المحمولة، بل سلط الضوء أيضًا على تحدياتها الخفية. ما كان مجرد أرقام في تقارير الأرباح تحول إلى إشارات تحذيرية عند قراءتها من قبل محللي وول ستريت المتمرسين. لأول مرة، استطاع المستثمرون والمحللون تجاوز البيانات التقليدية، مثل الإيرادات والأرباح، إلى تحليل أعمق يستند إلى مؤشرات الأداء الاستراتيجي والتحولات السوقية، وبينما كانت نوكيا تعتقد أن الإفصاحات المتزايدة ستعزز من ثقة السوق، جاءت تقارير وول ستريت لتكشف عن قصور استراتيجياتها التنافسية. إن هذا الإدراج المزدوج أتاح للمحللين الوصول إلى مستوى جديد من الفهم، مما مكنهم من قراءة البيانات الصحيحة وتحذير المستثمرين من العواصف القادمة في الوقت الذي كان يُعتقد فيه أن نوكيا تسير على طريق النجاح المستدام.

لقد عزز الإدراج المزدوج في حالة نوكيا مزيدًا من البيانات الدقيقة التي بها اتضح للمحللين إشارات التحذير التي كانت واضحة لمن كان على دراية بكيفية قراءتها، مثل التحالف الخاطئ مع مايكروسوفت وتبني نظام "Windows Phone" الذي لم يكن لديه الزخم الكافي أو الدعم من المطورين ليكون بديلاً قوياً لـ "iOS" و"Android". أيضا تحذيرات من انخفاض الحصة السوقية في الأسواق المتقدمة مثل الولايات المتحدة وأوروبا. وتراجع تدريجي في مبيعات نوكيا وتحول المستهلكين نحو أجهزة جديدة وأكثر ابتكارًا من منافسين مثل أبل وسامسونج. كل هذه الاتجاهات كانت علامات على مشاكل أعمق في نوكيا بغض النظر عن بياناتها البراقة المتميزة مما ادي لتفاقم التقديرات الإيجابية المبالغ فيها إذن المشكلة لم تكن تتعلق بجودة البيانات المالية لنوكيا بحد ذاتها، بل بتفسير وتحليل هذه البيانات.  

تُعزى بعض هذه الأخطاء إلى مفهوم يسمي "انحياز البقاء"، حيث يميل الأفراد إلى تقييم أنفسهم من خلال النظر فقط في العناصر الناجية او التي استمرت في الوجود ، متجاهلين العلامات الحمراء ونقاط البيانات التي لم تنجُ بسبب التحيز في التحليل. في حالة نوكيا، تركز المحللون على النجاح الظاهر للشركة دون الانتباه بشكل كافٍ للتحديات المستمرة والتهديدات المتزايدة من المنافسين الصاعدين.

في بوابة أرقام، ندرك أن فخ "انحياز البقاء" ليس خطير علينا كمزود وطني للبيانات وصحافتها وحسب، بل على مستخدمينا وقراراتهم، لذلك تعاهدنا منذ التأسيس أن نلتزم بالحذر الشديد بشأن مشاكل جودة البيانات، ونتجنب الأخطاء الشائعة مثل الانحياز والقيم المفقودة والتناقضات. نحن لا نقتصر على تتبع وتحليل البيانات المعلنة من قبل الشركات، بل نراقب أيضًا الأخبار المالية وأخبار الأسهم التي تؤثر على مشاعر وقرارات المستثمرين. نحرص على التحقق من المعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي ونفحص الأخبار بعناية لتجنب التأثيرات السلبية للمعلومات المضللة والشائعات.  

يجدر بنا أن نكون متواضعين في تقييمنا للبيانات. تذكر دائمًا مثال نوكيا، حيث يمكن أن تؤدي الثقة المفرطة في البيانات والمبالغة في تقدير إمكانيات الشركة إلى نتائج سلبية. هذا ينبهنا إلى العيوب المأسوية التي تتشابه مع أبطال مسرحيات وليام شكسبير، التي رغم مرور قرون على تأليفها، تظل وثيقة الصلة بعالمنا المعاصر. فالتقدير المفرط للقدرات والمبالغة في التفاؤل يمكن أن يحجب عنا رؤية الأخطاء ومشكلات البيانات القاتلة، مما يجعل من الصعب علينا رؤية الإشارات التي تدل على وجود مشكلات قد تؤدي إلى فشل استثماري كارثي.

 

إسلام زوين، الرئيس التنفيذي لـ"أرقام".