اكتشف القوة التنافسية الكامنة: الأشخاص ذوي الإعاقة مصدر للإبداع والتميز في عالم الأعمال

11/08/2024 0
أحمد بن يحيى اليحيى

تمهيد،

 تزامنا مع مبادرة "السبت البنفسجي" التي تنظمها هيئة رعاية الأشخاص ذوي الإعاقة سنويًا في نهاية شهر يوليو، نحتفي بهذه الجهود النبيلة التي تهدف إلى تعزيز الوعي الاجتماعي بحقوق ذوي الإعاقة وتحقيق الحياة الكريمة لهم من خلال التخفيضات والعروض المميزة التي تقدمها الشركات التجارية المشاركة، ففي هذا السياق، نُسلط الضوء في هذا المقال على جانبٍ هام غالبًا ما يتم تجاهله من قبل أصحاب الأعمال، وهو الاستثمار الذكي في مواهب الأشخاص ذوي الإعاقة الاستثنائية مما يمنح الشركات ميزة تنافسية فريدة في عالم الأعمال، فمن هذا المنطلق، تدرك العديد من الشركات في العصر الراهن أهمية مفاهيم التنوع والشمولية والمساواة بين الجنسين في بيئة العمل. ورغم ذلك، لا يزال الأشخاص ذوو الإعاقة يواجهون تحديات كبيرة في الحصول على فرص وظيفية متكافئة، مما يستدعي الأمر إلى ضرورة إعادة تعريف مفهوم التنوع ليكون أكثر شمولية وعدالة، ليشمل استقطاب الكوادر المؤهلة من ذوي الإعاقة. فغالبًا ما يتم حصر توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة في إطار المسؤولية الاجتماعية، أو بدافع قيم الإنسانية والإحسان لهم، أو أحيانا للامتثال بالمتطلبات القانونية. فهذا الفكر السائد لدى أصحاب الأعمال يحول دون اكتشاف قدرات الأشخاص ذوي الإعاقة الكامنة ومواهبهم الفريدة. فقد أثبتت العديد من الدراسات الحديثة أن دورهم لا يقتصر على كونهم قوى عاملة فاعلة ومُبدعة في بيئات العمل المُختلفة فحسب، بل يتعدى ذلك أحيانا إلى تفوقهم على زملائهم غير ذوي الإعاقة في بعض المهام الوظيفية التي تتطلب مهارات عالية في الدقة والتركيز وإبداع حلولا للمشاكل المعقدة. 

لذا، تسعى العديد من الشركات الرائدة عالميًا إلى استقطاب الكفاءات المؤهلة من ذوي الإعاقة، انطلاقًا من قناعتها الراسخة بأن هذا النهج لا يقتصر على كونه عملًا خيريًا أو إنسانيًا فحسب، بل يشكل مصدرًا حقيقيًا للميزة التنافسية في سوق العمل. وتتجلى هذه الميزة المستدامة من خلال أربعة محاور رئيسية سيتم استعراضها بشيء من التفصيل في هذا المقال، وهي: قدرات ومواهب استثنائية غير مستغلة، وخلق ثقافة إيجابية للمنشأة، وتحفيز ولاء العملاء، وخلق بيئة جاذبة للاستثمارات، فلنبدأ رحلة سبر أغوار هذه المحاور الأربعة من خلال تناولها كما يلي: 

أولا، قدرات ومواهب استثنائية غير مستغلة. 

تُشير الأبحاث والدراسات الحديثة إلى أن الإعاقة يمكن أن تُشكّل مصدرًا لِمواهب ومهارات فريدة تُعزز الإنتاجية والابتكار في بيئات العمل المُختلفة. فقد كشفت دراسات حديثة من جامعة كامبريدج عن وجود علاقة وثيقة بين التوحد والتفوق في المهام التي تتطلب دقة عالية وتركيزًا مستمرًا. وقد أظهرت هذه الدراسات أن الموظفين من ذوي التوحد يتمتعون بكفاءة استثنائية في تحليل البيانات الضخمة، بفضل قدرتهم الفائقة على تمييز الأنماط والتركيز لفترات طويلة. فهذه الموهبة الفريدة تعزز من إمكاناتهم في تحقيق إنجازات كبيرة في مجالات متقدمة كالأمن السيبراني والذكاء الاصطناعي، مما يجعل وجودهم في بيئات العمل المتخصصة قيمة لا تُقدر بثمن، ومن ناحية أخرى، تشهد الشركات الكبرى مثل SAP وHP وEY تحولًا ملحوظًا نحو توظيف الأشخاص ذوي القدرات العصبية المتنوعة في مهام متخصصة، مثل: مراقبة الجودة، والأمن السيبراني، مما يعكس التزامها بالاستفادة من المهارات الفريدة لتحسين الأداء المؤسسي وتعزيز ثقافة الابتكار. فهذا التوجه الاستراتيجي لا يقتصر على إثراء بيئة العمل بالتنوع المعرفي ومهاري فحسب، بل يفتح آفاقًا جديدة للإبداع والتفوق التقني، مما يمهد الطريق نحو تحقيق ميزة تنافسية فريدة للشركة. 

أما بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة الحركية، فقد أثبتوا كفاءتهم العالية في دور حراسة الأمن بأحد المراكز التجارية في كولومبيا. حيث كانوا عنصراً حاسماً في الحد من ظاهرة سرقة المحلات التجارية، من خلال الاستفادة من الكراسي المتحركة لرصد محاولات السرقة بسهولة بفضل رؤيتهم المنخفضة التي تتيح لهم مراقبة جيوب المتسوقين بدقة. بالإضافة إلى ذلك، تمنحهم هذه الكراسي ميزة استثنائية من خلال القدرة على التحرك بسرعة في تتبع المتسوقين بفعالية وإتقان. وقد أصبح هذا النهج معياراً متبعاً في المراكز التجارية بأمريكا اللاتينية، حيث تم اعتماد هذه الاستراتيجية لتعزيز الأمن وتحقيق مستويات عالية من السلامة، فهذه الأمثلة ليست إلا غيضًا من فيض، فالأشخاص ذوو الإعاقة البصرية، على سبيل المثال، يمتلكون قدرات استثنائية من خلال الاعتماد على حواس أخرى غير البصر، مثل حاسة السمع المرهفة والمهارات اللمسية الفائقة. حيث تُظهر الدراسات أن هذه القدرات تُمكّنهم من التفوق في مجالات متنوعة تشمل الموسيقى، والفنون، والعلوم، والتكنولوجيا، وغيرها. 

ثانيا، خلق ثقافة إيجابية للمنشأة. 

أكد الموظفون في العديد من الشركات التي شملتها الدراسة أن وجود زملاء من ذوي الإعاقة في بيئة العمل ساهم في خلق ثقافة إيجابية تتسم بروح التعاون والمشاركة الفاعلة. حيث تُعد هذه الثقافة ميزة تنافسية مستدامة للشركات، يصعب على المنافسين محاكاتها، مما يدفعها إلى استثمار جهود وموارد ضخمة لبناء بيئة عمل مماثلة. ويكمن هذا التحدي في تعزيز الشعور بالانتماء وتشجيع الموظفين بالتحلي بروح التعاون وتبني سلوكيات إيجابية، ويمكن تحقيق ذلك من خلال شمل الكوادر المؤهلة من ذوي الإعاقة في بيئة العمل. إضافة إلى ذلك، إن نجاح الموظفين من ذوي الإعاقة يشكل مصدر إلهام ودافع قوي لتحفيز زملائهم الآخرين على تحسين أدائهم وتحقيق التميز الوظيفي. ويتجلى ذلك بوضوح في تجربة إحدى الشركات الهولندية المشاركة في الدراسة، حيث أكّد الموظفون على أن وجود زملائهم من ذوي الإعاقة لم يعزّز التعاون المشترك والتفاهم المتبادل في بيئة العمل فحسب، بل أضفى عليها أيضاً بُعداً إنسانياً عميقاً انعكس إيجاباً على أدائهم وإنتاجيتهم. 

إضافة إلى ذلك، كشفت دراسة حديثة أجرتها الجمعية الإسبانية للعمل الخيري عن حقيقة هامة تتمثل في أن شمل ذوي الإعاقة في بيئة العمل لا يقتصر على كونه مسؤولية اجتماعية فحسب، بل يُعد استثماراً استراتيجياً يجلب فوائد كبيرة للشركات. فقد أظهرت نتائج هذه الدراسة، التي شملت 57 شركة، تحسنًا ملحوظًا في ثقافة العمل بشكل عام، حيث أكد 88٪ من مسؤولي الموارد البشرية على هذا التحول الإيجابي. ويمكن تفسير هذا التحسن الملحوظ إلى تضافر مجموعة من العوامل الهامة التي شهدت نمواً ملموساً مع انضمام هذه الكفاءات الملهمة للقوى العاملة، مثل الشعور بالأمان النفسي - وهو طلب المساعدة دون الخوف من ردود الفعل السلبية - وتعزيز روح فريق العمل، وارتفاع معدلات الإنتاجية. وهو ما يؤكد أن العطاء الحقيقي لا يعرف حدودًا، وأنّ تمكين ذوي الإعاقة في بيئة العمل يساهم في خلق بيئة عمل أكثر إيجابية وإنتاجية للجميع. 

ثالثا، تحفيز ولاء العملاء. 

أثبتت العديد من الدراسات والتجارب البحثية أن استقطاب الأشخاص ذوي الإعاقة في بيئة العمل يمكن أن يُسهم بشكل إيجابي في تعزيز قيمة الشركات وجاذبيتها لدى العملاء. يجسد ذلك التوجه الذي تتبعه شركة "براونيز آند داونيز" أحدى الشركات الهولندية الرائدة والمتخصصة في مجال القهوة، والتي تعد نموذجًا مُلهمًا في الجمع بين تقديم منتجات عالية الجودة بأسعار تنافسية وتبني رسالة إنسانية نبيلة من خلال توظيف الأشخاص ذوي متلازمة داون وسط أجواء هادئة ومريحة بعيدا عن صخب المدينة لتحسين تجربة العملاء وإبراز الجانب الإنساني لعلامتها التجارية.  فقد أثبتت هذه الاستراتيجية الناجحة أن التميز التجاري والمسؤولية الاجتماعية وجهان لعملة واحدة، حيث تجذب هذه الشركة شريحة واسعة من العملاء لدعم رسالتها النبيلة، مُدركين أن قيمة المنتج لا تقتصر على جودته العالية فحسب، بل تشمل التعرف على عملية إنتاجه ومن يقوم بها. وعلى الرغم من أن هذا النهج قد لا يؤدي بشكل مباشر إلى زيادة في أرباح الشركة، إلا أنه يوثق متانة الروابط المجتمعية معها، ويُعمق ولائهم بها، ويزيد من مدى استعدادهم لدفع أسعار تعكس القيمة المُضافة التي تقدمها. ومن هذا السياق، يبين هذا النهج بجلاء أن المسؤولية الاجتماعية ليست مجرد خيار أخلاقي أو عمل إنساني، وإنما هي إستراتيجية ذكية تُحدث تأثيرًا إيجابيًا على المجتمع والاقتصاد على حد سواء. 

علاوة على ذلك، من الجدير بالذكر أن توظيف الأشخاص ذوي الإعاقة يجب أن ينبع من مبدأ أخلاقي راسخ وقيم حقيقية تؤمن بها الشركة، وليس مجرد أداة للترويج وتحسين الصورة من خلال توظيف عدد بسيط من الأشخاص ذوي الإعاقة. فإذا شعر العملاء أن الشركة تستغل هذه الفئة بغرض تحسين سمعتها، فإنهم سيفقدون الثقة بها وسينظرون إليها نظرة سلبية، في المقابل، عندما تلتزم الشركة بتبني نهج شمولي قائم على إيمان راسخ لدمج ذوي الإعاقة في بيئة عمل إيجابية، فإنها لا تستقطب فقط العملاء من ذوي الإعاقة وأسرهم فحسب، بل تجذب أيضًا كل من يُثمّن القيم الإنسانية النبيلة. إن هذا النهج لا يعزز سمعة الشركة ويرسخ صورتها كشريك يتبنى نفس المبادئ والقيم التي يؤمن بها عملائها، بل يُوطّد ولاءهم ويعزز ثقتهم بها. 

رابعا، خلق بيئة جاذبة للاستثمارات

أصبح في الوقت الراهن تمكين ذوي الإعاقة في سوق العمل أكثر من مجرد التزام أخلاقي أو مبادرة إنسانية نبيلة؛ فهو الآن استثمار استراتيجي ذكي يعزز مكانة الشركة، ويمنحها قوة تنافسية حقيقية تجذب المستثمرين، وتلهم أصحاب المصلحة، وتبني علاقات وثيقة ومستدامة مع العملاء، وبناء على ذلك، يتجه أصحاب رءوس الأموال حول العالم نحو اتخاذ قرارات الاستثمار في المشاريع التي تولي اهتماما في القضايا البيئية والاجتماعية والحوكمة. يدل على ذلك ما نشرته "بلومبرج" أن المشاريع الاستثمارية التي تركز على معايير المسؤولية الاجتماعية والبيئة والحوكمة تجاوزت حاجز 41 تريليون دولار في عام 2022، مع توقعات بارتفاعها إلى 50 تريليون دولار بحلول عام 2025، مما يعكس هذا تحولًا جذريًا في توجه المستثمرين لاتخاذ قراراتهم الاستثمارية التي تولي اهتماما بمعايير الاستدامة وقضايا المسؤولية الاجتماعية. 

على صعيد آخر، شهد مؤشر صناديق الاستثمار الاجتماعي، وفقًا لتقرير "سي إن بي سي"، نموًا هائلاً حيث تضاعفت أصوله أربعة مرات بين عامي 2017 و 2020، ليحتلّ حصة سوقية تُقدّر بـ 20% في الولايات المتحدة الأمريكية، والأهم في هذا السياق، أجرت الجمعية الأوروبية للمشاريع الخيرية دراسة للاستثمار الاجتماعي، حيث كشفت عن توجه متزايد نحو الاستثمار في الشركات التي تتبنى مفاهيم التنوع والشمولية وتضع في صميم اهتماماتها استقطاب الكوادر من ذوي الإعاقة، حيث بلغت 36% من استثمارات الجهات المستفيدة بهدف التكامل بين التميز التجاري وتعزيز المسؤولية الاجتماعية. فهذه النتائج توضح بجلاء أن تمكين الأشخاص ذوي الإعاقة في بيئة العمل خطوة إستراتيجية بالغة الأهمية لجذب المستثمرين الباحثين عن شركات تتبنى القيم النبيلة والرؤى الطموحة، والتي تُرسّخ مكانتها من خلال التزامها بمبادئ التنمية المستدامة وتطبيقها على أرض الواقع. 

وخلاصة القول، إن الاستثمار في المواهب الاستثنائية للأشخاص ذوي الإعاقة توجه إستراتيجي يعزز المكانة الاقتصادية والاجتماعية للشركات على حد سواء، لإنه ليس مجرد مبادرة إنسانية نبيلة فحسب، بل هي خطوة جرئية نحو الأمام لتحسين جودة الحياة وضمان العيش الكريم للجميع تحقيقا لمستهدفات الرؤية الطموحة لوطننا المعطاء.

 

 

 

 

خاص_الفابيتا