دعم المملكة للمؤسسات المالية العربية: صندوق النقد العربي كمثال

23/07/2024 0
د. عبدالرحمن بن عبدالله الحميدي

طلب مني الزملاء في جمعية الاقتصاد السعودية الإسهام في كتابة مقال لنشرة الاقتصاد الصادرة عن الجمعية يغطي تجربة عملي في صندوق النقد العربي الذي يوجد مقره في مدينة أبوظبي، حيث تشرفت بقيادة الصندوق بترشيح من المملكة ممثلة بمقام وزارة المالية السعودية لفترة تقارب العشر سنوات من عام 2014م حتى عام 2023م، في البداية لابد من الإشادة بالدعم الذي قدمته ولاتزال تقدمه المملكة العربية السعودية ممثلة بمؤسساتها المالية (وزارة المالية والبنك المركزي السعودي) للمؤسسات المالية العربية، حيث تُعد المملكة من أكبر المساهمين في رؤوس أموال تلك المؤسسات. ومن هذا المنطلق، يقوم ممثلو السعودية بدور فعّال ومؤثّر ابتداءً من مجالس إدارات تلك المؤسسات، وبدور قيادي في العديد من المبادرات الهادفة لتعزيز دور تلك المؤسسات على المستوى العربي كل حسب أهدافه الواردة في نظامه.

لعل أحد الأمثلة الموضحة لدور ودعم المملكة للمؤسسات المالية العربية تبنيها لمبادرة زيادة رؤوس أموال تلك المؤسسات إبان انعقاد القمة الاقتصادية العربية في المملكة لعام 2013م، وهي مبادرة اتفقت الآراء أن ذلك من الصعب تحقيقه لو لم تتبنَ المملكة تلك المبادرة لما تمثّله من ثقل ودور فاعل ومؤثّر. ومن أمثال تلك المبادرات أيضاً مبادرة تمويل المنشآت الصغيرة والمتوسطة التي أنيط بالصندوق العربي للإنماء الاقتصادي والاجتماعي إدارتها. إضافة لذلك، فإن برامج المؤسسات المالية العربية استفادت من مبادرات المملكة المقدمة أثناء رئاستها لاجتماعات مجموعة العشرين (G20) عام 2020م. كما لا يخفى على المتابع دعم المملكة للمؤسسات المالية العربية في المحافل الدولية والاجتماعات الرسمية، حيث تدعو باستمرار صندوق النقد والبنك الدوليين، وغيرهما للمزيد من التعاون والشراكة مع المؤسسات العربية.

كذلك لابد من الإشارة إلى ما تقدمه المملكة من دعم للدول العربية من خلال المؤسسات المالية العربية، ولعل خير مثال على ذلك برنامج الإصلاح الاقتصادي والمالي الشامل لليمن الذي تشرّف الصندوق بتصميمه، والإشراف على تنفيذه بتمويل من المملكة يصل إلى مليار دولار أمريكي، ولا يزال البرنامج موضع التنفيذ، امتازت الفترة التي كلفت بها لقيادة صندوق النقد العربي بعدد من التحديات، التي لا يزال عدد منها قائماً، أضفت تلك التحديات على عملي حيوية ونشاطاً. هنا لا بد من الإشارة والإشادة بالدعم الذي تلقيته من جميع المسؤولين الذين كنت اتعامل معهم من جميع الدول العربية، ورغبتهم الصادقة في نجاح المؤسسات المالية العربية لقناعتهم أنها الملاذ الأول للدعم قبل اللجوء للمؤسسات الدولية.

أحد تلك التحديات التي كانت ومازالت قائمة في المنطقة العربية هي ليس فقط الانخفاض النسبي لمعدلات النمو الاقتصادي الذي يدعم التوظيف خاصة للجيل الشاب الذي يمثّل حوالي 60% من سكان المنطقة العربية، إنما أيضاً عدم شمولية ذلك المعدل لكافة الفئات الاجتماعية والمناطق المختلفة في عدد من الدول. لذا عمل الصندوق على عدد من المبادرات الرافدة لشمولية وعدالة النمو التي منها على سبيل المثال مبادرة الشمول المالي الهادفة إلى جذب الجميع للاستفادة من الخدمات المالية المقدمة من القطاع المالي الرسمي. وقع الصندوق مع عدد من المؤسسات الدولية مبادرة الشمول المالي في الوطن العربي عام 2017م، تم على أثرها القيام بأنشطة متعددة، وبدء جمع إحصاءات ومؤشّرات لقياس مدى التقدم وفق منهجية تناسب أوضاع الدول العربية.  وما تمت ملاحظته بناءً على ذلك في عدد من الدول العربية، إعطاء أهمية بالغة للشمول المالي، وبدء تحقيق تقدم نسبي ملموس يتم قياسه وفق الإحصاءات والمؤشّرات المتعارف عليها دولياً.

ومن المبادرات التي عمل الصندوق على الدفع بها مبادرة الاستقرار المالي، فقد بدأ الصندوق إصدار تقرير سنوي عن الاستقرار المالي في الدول العربية، وتصميم منهجية بمؤشّرات متعارف عليها لقياس التقدم في الاستقرار المالي من سنة لأخرى. كذلك حرص الصندوق على قيادة جهود التحول المالي الرقمي، حيث تم إنشاء مجموعة عمل التقنيات المالية الحديثة، كمنصة لتبادل التجارب والخبرات، ونقل المعرفة بين الدول العربية، كما أصدرت المجموعة عدداً من الأدلة الإرشادية المهمة للمساعدة في توفير المشورة لدعم الانتقال للخدمات المالية الرقمية، لقد أولى الصندوق الاهتمام أيضاً بمواضيع التمويل الأخضر المستدام، ومواضيع الانتقال للاقتصاد الدائري للكربون، وكذلك تنظيم الصندوق لعدد من الأنشطة التي تغطي مواضيع الاقتصاد الدائري (الذي يمثّل أحد مبادرات المملكة أثناء رئاستها لمجموعة العشرين) بالتعاون مع وزارتي الطاقة والمالية السعوديتين، ومركز كفاءة الطاقة بالمملكة، والبرنامج الوطني للاقتصاد الدائري للكربون. ولذا فأحد مخرجات تلك الأنشطة أصبح تعزيز تنسيق مواقف الدول العربية تجاه هذه القضايا في الاجتماعات الدولية.  

كذلك باشر الصندوق بتوجيه من مجلس وزراء المالية العرب ومجلس محافظي المصارف المركزية العربية ترتيب اجتماعات لعدد من اللجان، وفرق العمل الجديدة التي جرى إنشاؤها منبثقة عن المجلسين، عززت من دور الصندوق كمنصة للحوار بين صانعي السياسات المالية والنقدية في الدول العربية، في الوقت الذي عزز فيه الصندوق شراكاته مع المؤسسات الإقليمية والدولية، حيث تم توقيع عدد من مذكرات التفاهم، مما تجدر الإشارة إليه أن عدداً من أنشطة الصندوق وصلت ذروتها خلال فترة أزمة كورونا حيث قدم الصندوق قروضاً وتمويلاً للتجارة العربية البينية تربو على 2 مليار دولار أمريكي، وتدريب عن بعد وصل إلى أكثر من 70 دورة تدريبية في عام 2023م للمسؤولين في وزارات المالية، والبنوك المركزية، ووزارات التجارة والهيئات الإحصائية في الدول العربية.

لقد شرف مجلس المحافظين (خلال فترة عملي) بتكليف الصندوق إنشاء مؤسسة جديدة هي المؤسسة الإقليمية لمقاصة وتسوية المدفوعات العربية (يطلق عليها اصطلاحاً "بنىBUNA") تعنى بتسوية المدفوعات البينية العربية ومع العالم الخارجي بالعملات العربية والدولية، حيث بلغ عدد العملات المدرجة حتى نهاية عام 2023 ست عملات عربية ودولية، وارتبط بأكثر من مئة بنك (مركزي وتجاري)، وهناك اهتمام من بنوك دولية للارتباط بالمؤسسة. تجسّد منصة "بنى" تطبيقاً عملياً لتوجهات مجموعة العشرين لتعزيز كفاءة المدفوعات عبر الحدود، التي كانت المملكة قد دعت إليها أثناء رئاستها للمجموعة، والعمل لا يزال مستمراً لاستكمال هذه الجهود الدولية بمشاركة الصندوق.

وقبل الختام، أرى لزاماً الإشارة إلى نقطتين، في رأيي، أنهما مهمتان: الأولى: تثمين الدعم المقدم من مجلس محافظي الصندوق ممثلاً بأصحاب المعالي وزراء المالية، ومحافظي المصارف المركزية العربية، وهو دعم ممكن أن يطلق عليه مصطلح "غير المسبوق". الثانية: الكفاءة والمهنية العالية للعاملين في الصندوق، وقدرتهم وتفانيهم أن يكون للصندوق دور ريادي على مستوى الوطن العربي منفتحاً ومتعاوناً مع المؤسسات الدولية ذات العلاقة، لذا فإن عدداً من المبادرات على مستوى المنطقة كنا سباقين في إطلاقها بمنطقتنا قبل المؤسسات الدولية.

وأجد نفسي مقصراً إذا لم أشر للجهود التي قام بها المديرون العامون السابقون خصوصاً الأستاذ/ سعيد غباش، والدكتور/ عبدالله القويز، ومعالي الأستاذ/ أسامة جعفر فقيه، وسعادة الدكتور/ جاسم المناعي. وأدعو لسعادة الأخ الدكتور/ فهد بن محمد التركي بالتوفيق والسداد في مهامه الجديدة كمدير عام للصندوق. 

في الختام، أتقدم بالشكر والعرفان والامتنان لخادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وصاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان بن عبدالعزيز ولي العهد رئيس مجلس الوزراء - حفظهما الله -، على ما تقدمه المملكة من دعم سخي للمؤسسات المالية العربية، كما أتقدم بالشكر للمسؤولين في المملكة خصوصاً مسؤولي وزارة المالية والبنك المركزي على ما تلقيته منهم من دعم طيلة فترة عملي بالصندوق، والله ولي التوفيق.

 

المقالة نشرت في النشرة الفصلية لجمعية الاقتصاد السعودية عدد يونيو 2024