عندما يتعلق الأمر بمناقشة الأزمات المالية وأهميتها، فإن أحد أبرز المؤشرات المتعلقة بها هو منحنى العائد السلبي (Inverted Yield Curve)، حيث يكون لأدوات الدين طويلة الأجل عائدٌ أقل من أدوات الدين قصيرة الأجل ذات نفس الجودة الائتمانية. يعكس منحنى العائد الطبيعي عادةً اتجاهًا صاعدًا، مع تحقيق عائد أعلى للإقراض لفترة أطول. وكلما طالت المدة، كلما ارتفع العائد المتوقع. في التاريخ، تجاوزت العائدات على الديون طويلة الأجل عادةً العائدات على الديون قصيرة الأجل، إلا في فترات قليلة، وكانت هذه الفترات عادةً ما تليها أزمات مالية في فترات متفاوتة. وفي الوقت الحالي، تواجه الولايات المتحدة منحنى عائد سلبي، حيث امتدت فترة الانعكاس السلبي بين عائد سندات الخزانة لعشر سنوات والعائد لعامين لفترة 498 يومًا، وهو رقم طويل مقارنة بجميع الأزمات المالية السابقة، مثل أزمة الدوت كوم في عام 2000 وحتى الركود في عام 1981. وجميعها لم تستمر لمدة أطول من الأزمة التي امتدت من عام 1978 إلى 1980، حيث استمر منحنى العائد السلبي لمدة 626 يومًا.
يرتبط هذا المؤشر عادةً بالحذر وتوقعات بتباطؤ في الاقتصاد. وقد تنبأ الاقتصاديون بحدوث ركود لأكثر من عام، لكن حتى الآن، تحولت توقعاتهم إلى الهبوط الناعم (Soft Landing). ومع استمرار التحسن في أرقام التضخم، يبقى السؤال حول مدى استمرار هذا الانعكاس أو عودته إلى منحنى العائد الطبيعي المتجه صعودًا. لذا، سنتحدث الآن عن الأزمات المالية وأشكالها المختلفة، بدءًا من انهيارات أسواق الأوراق المالية والفشل المصرفي وصولًا إلى انخفاض قيمة العملة والركود الاقتصادي. إن فهم الأسباب والعواقب والحلول المحتملة للأزمات المالية أمر بالغ الأهمية لصانعي السياسات والشركات وعامة الناس، تنبع الأزمات المالية عادةً من مجموعة من العوامل الاقتصادية والمالية والسلوكية، كما أنها تشمل مجموعة من المحفزات الشائعة ومنها يلي:
الديون المفرطة: يمكن لمستويات الديون المرتفعة، سواء على مستوى الشركات أو الحكومة أو الأفراد، أن تخلق نقاط ضعف. عندما يكافح المقترضون للوفاء بالتزاماتهم، يمكن أن يؤدي ذلك إلى سلسلة من المشاكل المالية.
فقاعات الأصول: فقاعات المضاربة، حيث تصبح أسعار الأصول مثل العقارات أو الأسهم منفصلة عن قيمتها الجوهرية، يمكن أن تنفجر في نهاية المطاف، مما يؤدي إلى خسائر مالية كبيرة.
الفشل المصرفي: يمكن أن يؤدي الانهيار في القطاع المصرفي، الناجم عن قضايا مثل عدم كفاية إدارة المخاطر، إلى فقدان الثقة، مما يؤدي إلى تأثير الدومينو في جميع أنحاء النظام المالي.
العوامل الاقتصادية العالمية: يمكن أن تساهم الاختلالات الاقتصادية على المستوى العالمي، مثل العجز التجاري أو اختلالات العملة، في عدم الاستقرار المالي.
ومن ناحية أخرى، فالأزمات المالية تصاحبها تداعيات واسعة النطاق ويمكن أن تكون لها آثار عميقة على جوانب المجتمع المختلفة ومن أبرزها:
الانكماش الاقتصادي: غالبًا ما تؤدي الأزمات المالية إلى انكماش اقتصادي، مع انخفاض الناتج المحلي الإجمالي، وارتفاع معدلات البطالة، وانخفاض الإنفاق الاستهلاكي والشركات.
اضطراب السوق: قد تشهد أسواق الأسهم انخفاضات حادة، وقد يواجه المستثمرون خسائر كبيرة مع انخفاض قيمة الأصول، وهذا له سلبيات بعيدة المدى على الطبقة الوسطى بالذات حيث قد تكون وضعت جُل مدخراتها في هذه الأسواق.
ضغوط النظام المصرفي: قد تواجه المؤسسات المالية مشكلات السيولة والمخاوف المتعلقة بالملاءة المالية، مما يدفع الحكومة إلى التدخل لتحقيق الاستقرار في القطاع المصرفي.
أزمات الديون السيادية: في بعض الحالات، تؤدي الأزمات المالية إلى مشاكل الديون السيادية، حيث تواجه الحكومات تحديات في خدمة التزامات ديونها.
ونظراً لأهمية الأزمات المالية وخطورتها فيتطلب الأمر معالجة ذلك من خلال اتباع نهج شمولي منسق ومتعدد الأوجه منها ما يلي:
السياسة النقدية: غالبًا ما تلعب البنوك المركزية دورًا رئيسيًا في تخفيف الأزمات المالية من خلال تنفيذ السياسات النقدية، مثل تعديلات أسعار الفائدة، لتحقيق استقرار الاقتصاد.
السياسة المالية: قد تنفذ الحكومات تدابير التحفيز المالي، مثل زيادة الإنفاق العام أو الحوافز الضريبية، لتعزيز النشاط الاقتصادي خلال فترة الركود.
التنظيم المالي والحوكمة: يمكن أن يساعد تعزيز القواعد التنظيمية والإشراف المالي في منع الإفراط في المخاطرة وتعزيز مرونة النظام المالي.
التعاون الدولي: بما أن الأزمات المالية غالبًا ما يكون لها آثار عالمية، فإن التعاون الدولي أمر بالغ الأهمية. ومن الممكن أن يساهم التنسيق بين البنوك المركزية والسلطات المالية في إدارة الأزمات بشكل أكثر فعالية.
ختاماً، يمكننا القول إنه على الرغم من أن الأزمات المالية تمثل تحديًا، إلا أنها توفر أيضًا فرصًا للتفكير والإصلاح والمرونة. ومن خلال التعلم من الأزمات الماضية، وتنفيذ السياسات الاقتصادية السليمة، وتعزيز التعاون الدولي، يستطيع المجتمع أن يبني أنظمة مالية أكثر قوة وأكثر تجهيزا لمواجهة أزمات المستقبل. وبينما نتعامل مع تعقيدات المشهد المالي، فإن الالتزام الجماعي بالممارسات المالية المسؤولة والتركيز على الاستدامة طويلة الأجل يمكن أن يساهم في اقتصاد عالمي أكثر استقرارًا ومرونة.
المقالة منشورة في النشرة الفصلية التي تصدرها جمعية الاقتصاد السعودية عدد ربيع أول 1445 / سبتمبر 2023م