إيطاليا تتجه نحو الانسحاب من مبادرة «الحزام والطريق» الصينية، بعد أن انضمت لها عام 2019. وتصريحات المسؤولين الإيطاليين المؤيدين لهذا القرار في ازدياد. كان آخر هذه التصريحات لوزير الدفاع الإيطالي الذي وصف قرار الانضمام للمبادرة بـ«المرتجل والشرير»، وأن منافعه في اتجاه واحد. أما رئيسة الوزراء الإيطالية فقد كانت تنتقد هذا القرار في أثناء ترشحها للرئاسة، إلا أن حدة انتقادها خفت بعد توليها قيادة الحكومة. انسحاب إيطاليا سيكون بحلول نهاية الربع الأول من العام المقبل، والموعد النهائي لتقديم طلب الانسحاب رسمياً هو نهاية هذا العام. فما هي الأسباب الاقتصادية والسياسية التي قد تدفع بإيطاليا نحو القرار؟، من الجانب الاقتصادي، يعلل الإيطاليون بأن الصين استفادت أكثر منهم من انضمام بلادهم إلى المبادرة. هذا التبرير جاء موثّقاً بالأرقام التي تشير إلى أن صادرات إيطاليا إلى الصين نمَت بنسبة 26 في المائة من 14.5 إلى 18.5 مليار يورو، بينما ارتفعت صادرات الصين بنسبة 51 في المائة من 33.5 إلى 51 مليار يورو. وإيطاليا كانت تأمل في أن تزيد استثماراتها في الصين، ولكن استثماراتها المباشرة هناك هوَت من 650 إلى 33 مليون.
إضافة إلى ذلك، أشارت الإحصائيات إلى أن الصين استثمرت في إيطاليا منذ 2005 نحو 24 مليار يورو، ولم يكن نصيب الأربع سنوات الأخيرة منها إلا 1.8 مليار! هذه الإحصائيات أظهرت لإيطاليا أن الانضمام إلى المبادرة لم يمنحها أي امتيازات تجارية مع الصين، وهو كذلك لن يضمن لها أي أفضلية في السنوات المقبلة؛ بل إن المسؤولين الإيطاليين أعلنوا صراحة أن دولاً أخرى لم تنضم إلى المبادرة لها علاقات تجارية مع الصين أكبر من إيطاليا، والمقصود هنا ألمانيا وفرنسا، أما الجانب السياسي فيرتبط بوضع إيطاليا إبّان انضمامها إلى مبادرة «الحزام والطريق» عام 2019، فبعد سلسلة من الأزمات الاقتصادية التي مرت بها إيطاليا في العشر سنوات السابقة للانضمام، شعرت إيطاليا بأنها مُهملة من الاتحاد الأوروبي، وتحت الحكومة الشعوبية السابقة بقيادة جوزيبي كونتي، قررت إيطاليا فتح مجال تعاون مع الصين بانضمامها إلى المبادرة، لتكون بذلك أول دولة منضمّة من مجموعة السبع. حينها لاقت إيطاليا استنكاراً من حلفائها في الغرب، ولكن إيطاليا وقتها اتّبعت موجة الشعوبية التي كانت أميركا على رأسها بشعار «أميركا أولاً»، فبدا لها أن الأخذ بمصلحتها هو الأولى.
ولكن العالم تغير منذ ذلك الحين، وعلى الجانب السياسي تحديداً، لعبت الحرب الروسية الأوكرانية دوراً محورياً في تغيير المفاهيم الإيطالية، فالصين كشفت عن وجه لم يعجبهم، وهو الوقوف بجانب روسيا في حربها ضد أوكرانيا، وهو موقف لم تتسامح معه جُل الدول الغربية. ومنذ ذلك الحين بدأ كثير من الدول الأوروبية –بما فيها إيطاليا– إعادة تقييم علاقاتها ومصالحها مع الصين، متبعة بذلك النموذج الأميركي الذي بدأ قبلها بأعوام. وما يدلل على أهمية الجانب السياسي في التوجّه الإيطالي الجديد، أن من صرح برغبة إيطاليا في الانسحاب من المبادرة هو وزير الدفاع الإيطالي، وليس وزير الخارجية أو رئيسة الوزراء، وهو تصريح سياسي وضّح فيه وضع الصين مع إيطاليا كمنافس اقتصادي، وقد يكون لمجموعة السبع دور في انسحاب إيطاليا من المبادرة، فبعد أن أدركت دول المجموعة الأثر الاستراتيجي للمبادرة، والمتمثل في زيادة النفوذ والقوة الناعمة الصينية في الدول النامية، قررت إطلاق مبادرة مضادة في يونيو (حزيران) 2022، سمّتها «المبادرة العالمية للاستثمار والبنية التحتية» أعلنت بموجبها جمع 600 مليار دولار خلال 5 سنوات، للاستثمار في البنى التحتية لدول منها دول نامية، وبالطبع كانت مساهمة الولايات المتحدة هي الأعلى بنحو ثُلث هذا المبلغ.
إن انسحاب إيطاليا من المبادرة لهو ضربة مؤلمة للمبادرة الصينية، فقد سوّقت الصين لمبادراتها بشكل أكبر بعد انضمام أحد أكبر الاقتصادات في العالم لها، وقد شكّلت إيطاليا لها نقطة دخول قوية لأوروبا، وقد ترى الصين في خروج إيطاليا من المبادرة إهانة لها، لا سيما في ذكرى عشر سنوات منذ إطلاق المبادرة. ويعتقد الصينيون أن هذه المبادرة كانت مثمرة للطرفين، ولذلك فقد أرسلوا مسؤوليهم إلى إيطاليا في محاولات تبدو يائسة لإثنائها عن هذا القرار الذي يُنتظر أن يبتّ فيه البرلمان الإيطالي، أما إيطاليا، فيبدو أنها بالغت في توقعاتها لنتائج الانضمام إلى المبادرة، فكانت تتصور أن تمنحها الصين استثمارات سهلة، وأن تلعب المبادرة دور العلاج الاقتصادي لها، ولكن الواقع جاء مخيباً لآمالها. ولكنها في الوقت نفسه كسبت تأييد حلفائها الغربيين، لا سيما أنه يأتي في وقت لا تبدو الصين فيه بأفضل أوضاعها الاقتصادية. ويتبقى على إيطاليا إيجاد طريقة تمكّنها من الانسحاب من المبادرة دون الإضرار بعلاقتها المهمة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم.
نقلا عن الشرق الأوسط