"الووك" أو الصحوة اليسارية المتطرفة هي أيديولوجيا مستحدثة، يقال إن جذورها تعود إلى خمسينيات القرن الماضي حين استخدمها الناشطون السود للدفاع عن حقوقهم، إلا أنها لاحقا وجدت قبولا واسعا لدى التجمعات الشبابية في الجامعات، وتبناها بشكل قوي اليسار الغربي كمنهج أو عقيدة ضد ما يوصف بأنه تسلط ذكوري، وتحديدا التسلط الذكوري الأبيض الجنس، وضد التمييز العنصري واضطهاد جماعات المهمشين وغيرهم من الأقليات، التأثيرات الحادة لهذه العقيدة الجديدة تجاوزت الجوانب السلوكية والاجتماعية والسياسية ووصلت إلى عمق الاقتصاد والمؤسسات المالية، نتيجة الضغوط التي تمارسها جماعات الووك والحركات الليبرالية المتطرفة ذات النفوذ المسيطر على الساحات الإعلامية والأكاديمية والفكرية، لذا فكثير من المفاهيم التي تؤمن بها جماعات الووك تم تبنيها من قبل عدد من المنظمات الرسمية، حكومية وغير حكومية، كالأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية وغيرهما من المنظمات الأخرى، بما في ذلك هيئة الأوراق والأسواق الأمريكية SEC.
لا خلاف على صحة معظم هذه المبادئ والمفاهيم، كونها ترتكز على مبادئ العدل والمساواة وعدم التمييز وتقبل الآخر، إلا أنها كذلك لا تخلو من مبادئ راديكالية منافية للقيم والعادات والأديان والحقائق البيولوجية للبشر، وفي أفضل الحالات بعض تلك المبادئ متعارضة مع مصالح كثير من الأطراف، كما يحدث في سياق حماية البيئة ومطالبات التخلص من الوقود الأحفوري، وما نتج عن ذلك من برامج وأساليب لمعاقبة الشركات العاملة في هذا المجال، هيئة الأسواق الأمريكية لديها مشروع يجبر الشركات المدرجة على تضمين تقاريرها الدورية جملة من الإفصاحات حول نشاطات الشركة المتعلقة بحماية المناخ، مع قيام الشركة بتحديد حجم المخاطر التي قد تواجهها نتيجة عدم امتثالها لما هناك من تشريعات مناخية، وعلى كل شركة مدرجة الإشارة في تقاريرها إلى مدى تأثير تلك المخاطر في النتائج المالية للشركة وفي أي من التقديرات المستخدمة في إعداد البيانات المالية.
ويجب أن تفصح الشركة عن حجم الانبعاثات الغازية المباشرة الناتجة عن أعمالها، وكذلك الانبعاثات الغازية غير المباشرة، على سبيل المثال الناتجة عن استخدامها الشبكة الكهربائية أو الوقود أو غيرها من السلع والمنتجات ذات التأثير في المناخ، في الأعوام القليلة الماضية تم الترويج على نطاق واسع لمعايير موجهة للشركات تتعلق بالبيئة والمجتمع وجودة الحوكمة في الشركات، ما يعرف بمعايير ESG، إلا أن هذه المعايير بدأت تواجه انتقادات حادة في الآونة الأخيرة، وبسببها ظهر مصطلح Greenwashing الذي يقصد به الشركات التي تتاجر باسم الحفاظ على البيئة، دون أن يكون لديها أي نشاط حقيقي في هذا الجانب، الضغوط على الشركات والمؤسسات المالية للالتزام بهذه المعايير أصبحت محل جدل كبير، فهناك مسألة التكاليف المالية التي تتكبدها الشركات من أجل الامتثال لهذه المتطلبات، وكيف يمكن العمل بها إن لم تكن هناك مقاييس موضوعية للعوائد المالية على الشركات التي تتبناها، وبحكم أن هناك جدلا فلسفيا وانقساما مجتمعيا في كثير من الأمور المستهدفة من خلال تبني هذه المبادئ، فهل يمكن للشركات تطبيق مبادئ قد لا يتفق معها ملاك الشركات؟
كثير من الشركات خرجت عن مسارها التقليدي المحايد وأصبحت تتصرف كالنشطاء السياسيين والمصلحين الاجتماعيين، حيث في كثير من الأحيان تتخذ الشركة مواقف سياسية أو فكرية أو أيديولوجية، بحسب توجه رئيسها التنفيذي أو مجلس إدارتها، وليس بالضرورة بحسب رغبات ملاكها، شن عدد من الولايات الأمريكية الجمهورية حملات قوية ضد مديري الأصول والمؤسسات المالية ممن لديهم نشاطات تتعارض مع مصالح تلك الولايات، فقامت بمنعهم من التقدم على أي من المنافسات التي تطرحها تلك الولايات، والسبب أن بعض هذه المؤسسات معادية لوسائل الطاقة التقليدية كالفحم والنفط، وتقوم بحجب الاستثمارات عن الشركات العاملة في هذه المجالات، وكردة فعل معاكسة، قامت بعض المؤسسات المالية بإطلاق صناديق متداولة مضادة لأيديولوجيا الووك، منها صندوق باسم "اللهم احفظ أمريكا" وآخر مختص بشركات الوقود الأحفوري، وثالث باسم "لنجعل أمريكا عظيمة مرة أخرى".
كثير من الجهات الرسمية في المملكة تتبنى المعايير البيئية الاجتماعية والحوكمة، لكن بدرجات أقل مما هو متبع من قبل بعض الجهات في الخارج، فمثلا هيئة السوق المالية تهتم بهذه المعايير فيما يخص دور السوق في دعم نمو الشركات واستدامتها، وكذلك "تداول" السعودية لديها أدلة إرشادية متعلقة بمبادئ الإفصاحات البيئية والاجتماعية والحوكمة للشركات المدرجة، بهدف حث الشركات على اتباع هذه الممارسات والإفصاح عنها في تقاريرها ونشراتها الدورية، لكن هذه المبادئ ليست إلزامية كما تحاول أن تقوم به الهيئة الأمريكية، التي يبدو أنها ستتراجع عن كثير مما قامت بطرحه من مقترحات، حيث تم تأجيل اتخاذ القرار النهائي حول ذلك إلى وقت لاحق.
أخيرا، من المعروف أن المملكة من الدول المهتمة بالمناخ والموقعة على اتفاقية "باريس للمناخ" عام 2015، ولدى المملكة جهود كبيرة في الحد من الانبعاثات الغازية الضارة للبيئة، وهي من الدول المتبنية مفهوم الحياد الصفري، إلا أن الاستراتيجية السعودية ليست معادية للوقود الأحفوري، بطبيعة الحال، بل إن لدى المملكة طرقا بديلة للسيطرة على تفاقم التغيرات المناخية من خلال تقنيات التقاط ثاني أكسيد الكربون والتصرف فيه، ومشاريع السعودية الخضراء، والهيدروجين النظيف وغير ذلك، إلى جانب إدارة ذلك من خلال بورصة جديدة لتداول أرصدة الائتمان الكربوني، أعلن عنها في آواخر العام الماضي.
نقلا عن الاقتصادية