يعاني العالم أزمات اقتصادية تختصر خلاصتها، كما يراها البشر الآن، في تضخم موجع وعنيد. والأزمات الاقتصادية بأنواعها تعني - باختصار مبسط - الانخفاض الحاد والمفاجئ في الاقتصاد كله أو بعضه. والتوضيح يدخلنا في تعقيدات ومتاهات. والحديث هنا باختصار شديد.
حدوث أزمات ومصائب ليس بجديد. فقد مرت المصائب بالبشر عبر الأعوام. مرت مهما بلغوا من العلم والقوة والعمران. وقامت وما زالت الخلافات قائمة بين البشر في التفسير وفي المواجهة.
من المهم جدا التنبيه في البداية على أمر، المصائب ومنها الأزمات الاقتصادية إنما هي من الناس، يقول المولى سبحانه: «وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم» الآية 30 من سورة الشورى. وهذا لا يمنعنا من البحث في الأسباب الكونية، مثلما أننا نؤمن بأن المرض مصيبة من المصائب المشمولة بالآية، وما كان ذلك مانعا من البحث في جوانب المرض بما يساعد على معرفة العلاج. وبالمثل، هناك جوانب لتلك الأزمات الاقتصادية، وتتركز في معرفة جذور الأزمات نشأة وتطورا، ولماذا تتضرر قطاعات ودول أو مجتمعات أكثر من غيرها.
بينت الآية أن الناس في سلوكهم عامل أساس في نشأة الأزمات. ويساعد على معرفة ذلك النظر إلى الأوضاع الاقتصادية الكلية. وناقش هذا الأمر الاقتصادي البريطاني المشهور كينز، في كتابه "النظرية العامة في التوظيف والفائدة والنقود" 1936، إثر الكساد العظيم في ثلاثينيات القرن الماضي. والأساس المنطقي لهذا النظر أن الأزمات لا تولد من فراغ، وفهم الأوضاع الكلية وتحليلها يسهل فهم طبيعة الأزمات.
حب ابن آدم للمال شديد، ولو أعطي واديا من ذهب لابتغى واديا آخر. والتصرفات التي تقود إلى أكل المال الحرام ليست ضرورة من ضرورات هذا الحب، وما يقوم عليه من ملكية خاصة أو ما يسمى رأسمالية، لكنها عارض. ويشبه ذلك القول إن الربا أو الاحتكار "أو الغش أو...إلخ" عارض على التجارة، وليس من ماهيتها. بل يمكننا القول إن ماهية الرأسمالية تنطبق على السلوك الاقتصادي في المجتمع الذي يطبق الشريعة، كما يفهمها جمهور فقهاء وعلماء المسلمين.
مع انهيار الاتحاد السوفياتي قبل 30 عاما تقريبا ومع توسع العولمة، شهد العالم ولادة منظمة التجارة العالمية عام 1994، واتجهت استثمارات الشركات العالمية إلى ما سمي بالاقتصادات الصاعدة، وعلى رأسها الصين. كانت وقتها أسعار الفائدة منخفضة مقارنة بما قبل. وحفز هذا الانخفاض كثيرين، وحفز صناع القرارات في أمريكا، إلى توسع مبالغ فيه بالاقتراض والاستثمار. لكن بدأت موجة الاستثمار عالميا في الانخفاض لاحقا. ووقع الاقتصاد الأمريكي في ركود عام 2001. ومن وسائل مكافحة هذا الركود أن تبنى الاحتياطي الفيدرالي "بنك أمريكا المركزي" سياسة التيسير الكمي وخفض إضافي في أسعار الفائدة. وحققت هذه السياسة مصالح، لكن كانت لها آثار سلبية في المدى البعيد خاصة.
شهد كثير من الاقتصادات الكبيرة، وعلى رأسها الأمريكي، نموا، لكنه نمو اعتمد ولأعوام طويلة على توسع الناس في الاقتراض. لم ترتفع الأجور الحقيقية بما يجاري ازدهار الاقتصاد، من جراء تدني الزيادة في الإنتاجية، ومعروف في النظرية الاقتصادية أن زيادة الأجور الحقيقية لا يمكن أن تكون مقدورا عليها دون زيادة الإنتاجية. لماذا لم تزد الأجور الحقيقية زيادة كبيرة؟ زيادة الإنتاجية تتبع وتبنى على التطور التقني، ويرى كثير من المحللين أن التقدم التقني خلال الأعوام الـ20 الماضية ساعد على زيادة الاستهلاك، أكثر من زيادة الإنتاجية. ويشكل الاستهلاك عادة في الدول أكثر من نصف الناتج المحلي الإجمالي.
مع التوسع في الاقتراض نمت الديون بما فاق نمو الدخل. وطبعا أسهم خفض الفائدة في زيادة الطلب على الاقتراض لشراء المساكن، ومن ثم حصول موجات من ارتفاع أسعارها. وبينت دراسات أن أكثر من نصف الزيادة التي شهدها الاقتصاد الأمريكي في الإنتاج وفي التوظيف كانت متعلقة بقطاع العقار خلال أعوام مضت.
وبالنسبة لعامة الدول الصاعدة اقتصاديا، خاصة في شرق آسيا، فقد عملت تلك الدول للوصول إلى ميزانيات فائضة، وزيادة الادخار بصورة كبيرة. لكن لم تصاحب هذه الزيادة زيادة في الاستثمار، ما أوجد فجوة بين الادخار المرغوب فيه والاستثمار الفعلي. ومع مزيد من العولمة الاقتصادية وتحرير التجارة، سهل انتقال بعض الأموال المدخرة إلى أكبر القطاعات المفتوحة للاستثمار في الدول الصناعية، خاصة قطاع العقار، الإسكاني بصورة أخص. ونالت أمريكا نصيب الأسد.
ساعدت الأوضاع السابقة على ارتفاع أسعار الأصول، فمثلا زادت بقوة قيمة الأسهم في أكثر بورصات العالم خلال الأعوام الـ20 الماضية. لكن الاستفادة من الزيادة تركزت في فئات من الناس. وساعدت طبيعة العولمة على هذا التركز.
ماذا بشأن معدلات الفائدة؟ كانت عالية أواخر القرن الماضي، وبدأت بالانخفاض في عقد الثمانينيات من ذلك القرن. لكنه انخفاض بسيط وتدريجي، ووصل إلى نهايته في العام الماضي تقريبا. تورط كثيرون بمواجهتهم أقساطا فوق قدرتهم. مع زيادة الطلب ارتفعت أسعار المنازل. لكن لا يمكن للأسعار أن تستمر في الارتفاع إلى الأبد، فهذا يعني أن الأموال تأتي للناس من لا شيء. ومعروف أن البنوك المركزية اتخذت حديثا خطوات لرفع معدلات الفائدة.
وأختم بالإشارة إلى النظام النقدي والمصرفي. رغم أنه موضوع طويل عريض، لكني أشير إلى نقطة مختارة. تتيح الأنظمة النقدية والمصرفية في أغلب الدول ممارسة صناعة النقود بتكلفة منخفضة جدا، بما يشبه حكاية تحويل النحاس إلى ذهب في القديم. وأمريكا هي الدولة الكبرى في هذه الممارسة، بالنظر إلى كون الدولار عملة الاحتياط العالمية الأولى منذ عقود. وهذا يتيح لأمريكا تمويل عجزها على حساب الآخرين. وكما لهذا الصنيع إيجابيات، فله سلبيات. وبالله التوفيق.
نقلا عن الاقتصادية
مقال قيّم من الدكتور صالح!