التضخم بين حقائق وأوهام

12/09/2022 1
د.صالح السلطان

مصطلح التضخم inflation الشائع يعني حصول ارتفاع في المستوى العام للأسعار في اقتصاد ما، ارتفاعا متوقعا استمراره أي أنه ليس بسبب ظرف وقتي قصير المدى. ويعني بعبارة مكافئة: انخفاضا مستمرا في قيمة النقود. وله طرق كمية منهجية في تنظيره وفهمه علميا، وفي قياسه إحصائيا.

يلتبس عبر الأعوام والقرون فهم التضخم على كثيرين. على سبيل المثال، تجد كثيرين يخلطون بين معناه والأسباب المحتملة في تفسير نشأته. يخلطون بين معناه ومظاهره التي يراها الناس، والتي هي في حقيقتها جزء أو مكون محتمل من مكوناته، وليست سببا في أصل نشوئه. كما أن الربط بين الأسعار وكمية النقود المتداولة صعب فهمه على كثير من الناس. لنأخذ العبارات التالية التي نسمعها ونقرأها كثيرا:

1 - ارتفاع الإيجارات سبب من أسباب نشوء التضخم. 2 - زيادة السكان سبب من أسباب التضخم. 3 - التضخم عالمي ولا تأثير لنمو الاقتصاد وزيادة الأجور والرواتب في التضخم.

العبارة الأولى تعلل الشيء بجزء منه. وكأنها تقول غلاء الإيجارات من أسباب الغلاء. ارتفاع الإيجارات "أو أسعار المواد الغذائية، أو... إلخ" هو جزء من مكونات التضخم، لكنه ليس سببا في نشوء التضخم، إذا أردنا الدقة في التعبير. لكن قد تكون سببا في حالات خاصة، مثل وجود مساكن لفئات وإيجاراتها مدعومة بطريقة ما، ثم ألغي الدعم. ولكل مقام مقال.

العبارة الثانية غير دقيقة، لأن تزايد السكان لا يعني بالضرورة حصول غلاء، وإلا لكانت أكثر الدول ازدحاما هي أكثرها غلاء. قد يزيد عدد السكان دون أن ترتفع الدخول، تماما مثل أن يزيد عدد أفراد الأسرة دون أن يزيد دخلها ريالا واحدا، والنتيجة أن دخل الفرد انخفض، أما المستوى العام للأسعار فيبقى على حاله.

قد تتسبب زيادة السكان في تغيير الأسعار النسبية. مثلا، إذا بقي الدخل على حاله، لكن زاد السكان، فالأغلب أن الطلب على الإسكان وسلع أخرى بعينها يزيد، فتزيد أسعارها، طالما بقيت الأوضاع الأخرى على حالها. لكن المستوى العام للأسعار قد لا يتغير تغيرا ملموسا، وإنما إعادة توزيع لموارد الناس بين أوجه الإنفاق، فيزيد ما ينفق على السكن، مقابل خفض الإنفاق على غيره.

العبارة الثالثة غير دقيقة، وفيها تعميم دون دليل. لو قلنا هناك غلاء في دول كالصين والهند، على سبيل المثال، فالسؤال لماذا حدث الغلاء في هاتين الدولتين؟ سنقول الازدهار الاقتصادي في الصين والهند جر إلى حصول تضخم فيهما. ولا يعني ذلك حصر سبب التضخم في الازدهار. لكن نمو الاقتصاد يجر إلى تشغيل مزيد من الموارد، فزيادة تكاليف إنتاج الوحدة وهكذا. وكل هذه تسهم في التضخم.

وعبارة لا تأثير لزيادة الأجور والرواتب في التضخم عبارة مجملة غير دقيقة. هي تزيد من دخول الناس فالطلب، لكنها أيضا مصدر لزيادة تكلفة الأعباء فالأسعار والرسوم والضرائب. والمحصلة صافي التأثير في الزيادتين المتعارضتين. ولذا الأمر أكثر صعوبة مما يتبادر إلى أذهان كثيرين.

في حالة أن الدخل العام "مثلا الناتج المحلي" زاد زيادة ملموسة خلال فترة كذا، لأسباب منها ارتفاع سعر سلعة مصدرة، فإن زيادة الدخل تزيد الإنفاق والتوظيف والأجور، وتبعا يزيد الطلب. ومن المهم فهم أن المقصود بزيادة الطلب أي الكميات التي يرغب المشترون فعلا في دفع مقابل لها، وليس مجرد حب الحصول عليها.

وهنا نحن في الأغلب أمام احتمالين:

الأول، بقاء المعروض من السلع والخدمات كما هو، أو زاد بنسبة أقل بوضوح من زيادة الطلب، وتبعا فإن ارتفاع الأسعار أمر حتمي. وإلا فإنه سيتبادر إلى الذهن سؤال منطقي: أين ذهبت أو تذهب الزيادة في الإنفاق رغم عدم زيادة المعروض؟ واقعيا ليس من الضروري أن ترتفع الأسعار بنسبة ارتفاع الدخل نفسها، لوجود اعتبارات كثيرة. ولو كان الأمر كذلك لما كانت هناك أي فائدة من تزايد مستوى الأجور في الدول، ولتساوت الدول في مستويات المعيشة. ولذا لا يكفي النقاش النظري وحده للتعرف على التأثير، بل لا بد من أن يدعم بتطبيق كمي قياسي.

الآخر، زيادة المعروض تبعا لنمو حجم الاقتصاد وزيادة دخول الناس.

السؤال التالي، ما تأثير ذلك في الأسعار؟

العلاقة عادة طردية بين الأسعار والكمية المعروضة. علاقة من حيث الأصل. والسؤال التالي لماذا هي كذلك؟

زيادة العرض بصورة ملحوظة ومؤثرة مع الوقت تسبقها في الأغلب زيادة كميات النقود، وتتطلب مزيد تشغيل للموارد من يد عاملة وغيرها. وهذا يرفع تكلفة إنتاج وبيع السلع مع الوقت، وتدقيقا التكلفة الحدية. والمنتجون أو الباعة عموما بشر يحبون المال، ويرغبون في الحصول على الربح، ومن ثم فكلما كانت الفرصة في تحقيق ربح أعلى فالأغلب أن تحقيق ذلك عبر بيع المزيد، والعكس بالعكس. وهذا بغض النظر عن مستوى التنافسية في السوق. طبعا، كلما قلت التنافسية زادت الفرصة بتحقيق ربح أعلى. هذا هو الوضع الأغلب، وإلا فإن الكلام لا ينطبق دوما على كل حالة في كل زمان ومكان.

مما يعنيه الكلام السابق أن ضعف القدرة الشرائية لن يجعل الأسعار بالضرورة تنزل إلى مستويات لا تحقق ربحا للبائعين أو المنتجين. التكاليف المنظورة وغير المنظورة تحول دون انخفاض أسعار سلع كثيرة، حتى لو كانت الممارسات التجارية خالية من الغش وغيرها من طرق غير مشروعة. ولولا ذلك، لكانت مكافحة الممارسات غير المشروعة كافية لازدهار الاقتصادات، وتأمين مستويات معيشة عالية للناس في مختلف الدول والمجتمعات عبر التاريخ والأعوام، لكنها ليست كذلك. ولا يعني ذلك تجاهل أو التساهل في محاربة الممارسات غير المشروعة. عموما الموضوع معقد وطويل، وبالله التوفيق.

 

 

نقلا عن الاقتصادية