تخلت أسعار النفط في الأسابيع الأخيرة عن جميع المكاسب التي حققتها منذ بداية الأزمة الأوكرانية مع اشتداد مخاوف السوق من الركود. بالفعل، هناك علامات على تباطؤ النمو الاقتصادي، ما قد يضعف الطلب على النفط. تخضع أسعار النفط، مثل أي سلعة أخرى، لتقلبات دورية. عندما ترتفع الأسعار، تبدأ الطاقة الإنتاجية في النمو ويضعف نمو الطلب، ونتيجة لذلك يلحق مستوى العرض أو يفوق الطلب، وتبدأ الأسعار بالانخفاض. على مدار الـ15عاما الماضية، كان من الممكن ملاحظة هذه الدورة للنفط مرتين، في 2008 و2012 - 2014.
في 2022، شهدنا مرة أخرى أسعارا قياسية. لكن ماذا يحدث للاستثمارات؟ أحد المؤشرات غير المباشرة للنشاط في هذا المجال هو عدد منصات الحفر العاملة. في الماضي، كان هناك ارتباط واضح بين الأسعار ونشاط الحفر. لكن منذ بداية 2021، هناك تناقض واضح، الأسعار آخذة في الارتفاع، لكن شركات النفط ليست في عجلة من أمرها لحفر آبار جديدة، في تموز (يوليو)، كان عدد الحفارات العاملة 1775 فقط مقابل 2306 في شباط (فبراير) 2019.
وبالتالي، الزيادة الكبيرة في الإنتاج ستستغرق وقتا أطول مما كان عليه من قبل. نظرا إلى الاتجاه السائد في الحوكمة البيئية والاجتماعية وحوكمة الشركات ESG، وتحول نظام الطاقة، تفضل شركات النفط توزيع الأرباح على المساهمين، بدلا من استثمارها في تطوير مشاريع جديدة. علاوة على ذلك، بسبب الصراعات الجيوسياسية، قد ينخفض مستوى العرض في الأشهر الستة إلى الـ12 المقبلة. هذا يعني أن أسعار النفط فوق 90 دولارا للبرميل قد تكون أكثر استقرارا مما تبدو عليه. في هذا الجانب، توقعت وزارة الطاقة الأمريكية في تقريرها الشهري الأخير، أن متوسط سعر برميل خام برنت في 2023 سيكون 95 دولارا للبرميل.
مع ذلك، لا تزال المعنويات الهبوطية سائدة حاليا في سوق النفط، حيث يولي المشاركون مزيدا من الاهتمام لمخاوف الركود، استقرار صادرات النفط الروسية على عكس التوقعات المبكرة بخسائر فادحة تبلغ ثلاثة ملايين برميل يوميا، وضعف نشاط المصانع الصينية على أثر انتشار فيروس كورونا،، وعمليات الإغلاق ذات الصلة التي تضعف الطلب على الوقود.
في حين تشمل الإشارات الصعودية الوشيكة موسم الأعاصير في الولايات المتحدة هذا الشهر والشهر المقبل، حيث قد تؤدي العواصف الشديدة والأعاصير، إلى إغلاق منصات الإنتاج في خليج المكسيك أو إغلاق استباقي للمصافي على طول ساحل الخليج. يمكن أن يظهر عامل صعودي آخر بنهاية العام مع نهاية إصدارات الاحتياطي الاستراتيجي في الولايات المتحدة، والمتوقع حاليا أن ينتهي في تشرين الأول (أكتوبر). في الوقت نفسه، لا يقوم منتجو النفط في الولايات المتحدة بزيادة الإنتاج أكثر من اللازم - حتى عند 100 دولار للبرميل - بسبب الانضباط المستمر في رأس المال، قيود سلسلة التوريد، وارتفاع التكاليف.
إن التأثير الكامل لحظر الاتحاد الأوروبي في واردات النفط الروسي المنقول بحرا، والمتوقع أن يبدأ بنهاية العام، من الصعب أيضا تقديره، كذلك تأثير الحد الأقصى أو السقف المحتمل لأسعار النفط الروسي، الذي من شأنه أن يسمح بتوفير التأمين والخدمات الأخرى للخام الروسي إذا التزم المشترون بشرائه بسعر معين أو أقل منه.
لكن، في الوقت الحالي أسواق النفط تحت تأثير المخاوف من الركود الاقتصادي العالمي وتراجع الطلب. لقد تصاعدت المخاوف من الركود الاقتصادي في أوروبا وسط الارتفاع الكبير جدا في أسعار الطاقة وانخفاض الإمدادات من الغاز عبر خطوط الأنابيب الروسية، الأمر الذي يجبر الشركات في بعض الصناعات كثيفة الاستهلاك للطاقة على تقليص الإنتاج. في المملكة المتحدة، حذر بنك إنجلترا في وقت مبكر من هذا الشهر من أن البلاد من المتوقع أن تدخل في حالة ركود من الربع الرابع من هذا العام، التي ستستمر حتى نهاية 2023.
نتيجة لذلك، انخفض صافي مراكز المضاربة الطويلة - الفرق بين الرهانات الصاعدة والهابطة - في خام برنت وغرب تكساس الوسيط إلى مستوى متدن للغاية اعتبارا من أوائل آب (أغسطس) بسبب المخاوف من الركود وتراجع النمو الاقتصادي العالمي، وفقا لبنك "س.ي.ب" SEB. كما تفقد أسواق الخام الفعلية قوتها بسبب مخاوف من تباطؤ اقتصادي أو ركود. ومع ذلك، لا تزال سوق العمل في الولايات المتحدة قوية، حيث فاقت أحدث بيانات التوظيف تقديرات المحللين. ارتفع إجمالي التوظيف في الوظائف غير الزراعية بمقدار 528 ألف وظيفة في تموز (يوليو)، وانخفض معدل البطالة إلى 3.5 في المائة، وفقا للمكتب الأمريكي لإحصائيات العمل.
على المدى القريب، حركة أسعار النفط سيقودها الوضع الاقتصادي، التضخم، وارتفاع أسعار الفائدة، لكن بعض العوامل الصعودية قد تعيد الأسعار إلى الارتفاع. وتشمل هذه الطاقة الاحتياطية العالمية المنخفضة للغاية، وأن بعض دول "أوبك +" وفق خطتها العامة لديها إنتاج محدود تضخه وفق متطلبات الأسواق، وتداعيات الأزمة الأوكرانية. في الأشهر المقبلة سيصبح من الواضح كيف يمكن أن تتأثر الإمدادات الروسية للأسواق، وما إذا كانت ستتوقف ببساطة عن بيع النفط لتلك الدول التي تنضم إلى آلية سقف سعر محتمل للنفط الروسي. ويشمل الحد الأقصى للسعر المقترح السماح بالتأمين والخدمات الأخرى لشحن النفط الروسي، لكن موسكو قالت إنها لن تصدر نفطها إذا تم تحديد سقف السعر دون تكلفة الإنتاج.
في الوقت الذي يقول بعض المحللين إن أسعار النفط تتجه نحو الانخفاض مع اقتراب فترات الركود، يقول آخرون إن هذا الركود قد يكون مختلفا ولا يؤدي إلى انخفاض فعلي في الطلب على النفط. في هذا الجانب، قال هيثم الغيص الأمين العام لمنظمة أوبك، الطلب العالمي على النفط لا يزال قويا وسيظل كذلك حتى نهاية العام الحالي، مشيرا إلى أن عمليات البيع الأخيرة في أسواق النفط لا تعكس الأساسيات بل مدفوعة بالمخاوف. على سبيل المثال، عدل بنك جولدمان ساكس توقعاته لسعر خام برنت لهذا الربع إلى 110 دولارات للبرميل، نزولا من التوقعات السابقة البالغة 140 دولارا للبرميل، لكنه لا يزال يعتقد أن حالة ارتفاع أسعار النفط لا تزال قوية حتى مع افتراض حدوث كل هذه الصدمات السلبية، مع بقاء السوق في عجز أكبر من المتوقع في الأشهر الأخيرة.
نقلا عن الاقتصاية