طبيعة أسعار العملات وأزمة اليورو

26/07/2022 1
د. فهد الحويماني

تتم التبادلات التجارية العالمية من خلال أسعار صرف عملات الدول، وتتأثر الاقتصادات بتحركات أسعار العملة، فترتفع بسببها الصادرات أو تنخفض، وكذا الواردات. وفي الآونة الأخيرة رأينا سعر صرف اليورو أمام الدولار يتجه إلى نقطة التعادل لأول مرة منذ نحو 20 عاما، ما أثار مخاوف وشكوكا حول قدرة القارة الأوروبية على النهوض والتعافي وهي تواجه تحديات كبيرة وتنافسية من دول الشرق وأمريكا ودول صاعدة أخرى.

في هذا التقرير نتحدث عن أسعار صرف العملة ومحدداتها وأسعار الصرف الثابتة والحرة ودور الديون في ذلك، إلى جانب دور الحسابات الجارية والاحتياطيات الأجنبية بحسب صندوق النقد الدولي والركود الاقتصادي.

كيف يتم تحديد أسعار الصرف؟

هناك نوعان من أنواع أسعار الصرف، سعر الصرف الثابت وهو الذي تقرر فيه الدولة تحديد قيمة ثابتة لعملتها المحلية مقابل عملة أجنبية كالدولار الأمريكي، أو مقابل سلة من العملات الدولية، وقد لا يكون سعر الصرف ثابتا تماما، بل من الممكن أن يتحرك داخل نطاق ضيق.  النوع الثابت أو شبه الثابت يناسب تلك الاقتصادات التي لديها قدرة على توفير غطاء من العملات الأجنبية بشكل مستمر، نتيجة وجود سلع أو خدمات تحتاج إليها الأسواق الخارجية.

دول كثيرة تقوم بتثبيت عملتها أمام الدولار وعلى رأسها عدد من دول الخليج ولبنان والأردن وهونج كونج، وهناك دول أخرى عملتها مثبتة أمام اليورو أو الجنيه الاسترليني أو الروبية الهندية وغيرها. دول الخليج لديها سلعة دولية مهمة وهي النفط الذي منه تضمن هذه الدول حصولها على العملة الأجنبية لأعوام طويلة، ودول أخرى لديها سياحة خارجية قوية أو موارد طبيعية تدر عليها عملات أجنبية كافية للدفاع عن سعر صرف عملتها الثابت أمام العملات الأجنبية.

تستفيد الدول من ثبات سعر الصرف في المساعدة على استقرار الأسعار، وذلك لأن أسعار العملات هي المتحكم الأساسي في أسعار المنتجات المستوردة، وهي التي تتحكم بجزء تناسبي في أسعار المنتجات المصنوعة محليا نتيجة كون عدد من المدخلات كالآلات أو المواد الخام تكون أيضا مستوردة، لذلك فثبات سعر الصرف يعد إحدى الأدوات الأساسية للتحكم في معدلات التضخم. 

يؤثر كذلك سعر الصرف الثابت في تحفيز الاستثمار، ما يجعل الشركات الدولية تستثمر في تلك الدول بطمأنينة وعدم تخوف من تأثر مبيعاتها بتقلبات العملة.  يقدر حجم إيرادات شركات S&P500 الأمريكية من الخارج بنحو 50 في المائة، بحسب مركز أبحاث "يارديني"، وقد رأينا على سبيل المثال كيف أن شركة IBM الأسبوع الماضي أعلنت نتائج أعمالها للربع الثاني من 2022 وتلقت خسائر بمقدار 900 مليون دولار بسبب ارتفاع سعر صرف الدولار، وشركة نيت فليكس ذكرت خسارة بمقدار 339 مليون دولار بسبب العملة. 

عيوب سعر الصرف الثابت .. أزمة المملكة المتحدة عام 1992

رغم هذه الميزات إلا أن لدى سعر الصرف الثابت أيضا عيوبا من بينها ضرورة الحفاظ على سعر الصرف الثابت في جميع الأوقات، بغض النظر عن الأوضاع الاقتصادية الداخلية وكميات العملات الأجنبية والذهب الموجود لدى البنوك المركزية في تلك الدول.  فمثلا ارتفاع الطلب على سلع وخدمات الدولة يعني ارتفاع الطلب على عملتها وبالتالي في حال ثبات سعر الصرف لن تستفيد الدولة من ارتفاع قيمة العملة، فتظل مقابل كل عملة واحدة محلية تحصل على عدد ثابت من وحدات العملة الأجنبية، لكن في حال لو كان سعر الصرف حرا فستحصل الدولة على عدد أعلى من وحدات العملة الأجنبية مقابل عملتها المحلية. 

من الأمثلة على تلك الاختلالات هناك أزمة سعر الصرف للمملكة المتحدة عام  1992، حيث بدأت القصة من أواخر الثمانينيات مع حدوث ازدهار اقتصادي مدعوم بارتفاع أسعار المنازل، وانخفاض الضرائب وأسعار الفائدة، إلا أن هذا النمو لم يستمر وأدى في نهاية المطاف إلى تضخم في الأسعار. وفي أكتوبر 1990 قررت بريطانيا التدخل بشراء الجنيه الاسترليني حال بلوغ سعر صرف الجنيه 2.773 مارك ألماني، لكن مع ارتفاع أسعار الفائدة أدى ذلك إلى تباطؤ اقتصادي خطير وأدى إلى شبه استنزاف للاحتياطيات النقدية الحكومية، فخسرت حينها نحو 27 مليار جنيه استرليني جراء ذلك، ما دفع المضارب الشهير جورج سوروس لاستغلال الخلل في سعر الصرف الثابت وتحقيق نحو مليار جنيه استرليني نتيجة بيعه الجنيه الاسترليني على المكشوف.

أسعار الصرف الحرة floating

النوع الثاني من أنظمة أسعار الصرف هو سعر الصرف الحر أو العائم ويمكن وصفه بمرآة الاقتصاد للدولة، حيث يتحدد السعر تلقائيا دون تدخل الحكومات، ورغم ذلك يحدث أن يتدخل بعض الحكومات في أسعار الصرف حتى إن كانت أسعار الصرف حرة.  فهناك دول تسعى للتلاعب في عملتها ومن أهمها الصين التي تحاول دائما أن يصبح سعر عملتها أقل من قيمته الحقيقية للحفاظ على تنافسية صادراتها، فالدولار الذي يساوي نحو سبعة يوانات ولديه القدرة على سبيل المثال لشراء سبع وحدات من سلعة ما، إن انخفضت قيمته مقابل اليوان بسبب قوة اليوان، مثلا أصبح الدولار يساوي خمسة يوانات، فهذا يعني انخفاض عدد السلع التي من الممكن الحصول عليها مقابل الدولار الواحد، وبالتالي انخفاض تنافسية المنتجات الصينية في الأسواق الخارجية. 

بخلاف سعر الصرف الثابت، تؤدي تقلبات سعر الصرف الحر إلى حالة عدم اليقين لدى التجار والمؤسسات، لذا نلحظ دوما أن الميزانيات الحكومية تحتوي على توقعات لسعر الصرف خلال العام المالي، هذه التوقعات في الحالات الطارئة والأزمات تشكل عبئا كبيرا على الدول والشركات والتجار والأفراد على هيئة تقلبات في مستويات الأسعار. ومن بين العيوب الأخرى أيضا ضعف جاذبية الاستثمار بالنسبة للدول التي تعاني وضعا اقتصاديا غير مستقر، إلى جانب أن الفروق في أسعار الصرف تشجع على المضاربة في العملات وبالتالي زيادة حالة عدم الاستقرار للعملة.

إلا أن أهم مزايا نظام الصرف الحر عدم الحاجة إلى الاحتفاظ باحتياطي نقدي ضخم، فهو يؤدي إلى حدوث ضبط تلقائي للاقتصاد من خلال ميزان المدفوعات، ففي حال سعر الصرف الحر يتم استيراد السلع بقيمها الحقيقية وبالتالي فمع انخفاض قيمة العملة المحلية ترتفع تكلفة الواردات ويؤدي ذلك إلى زيادة تنافسية السلع المحلية وانخفاض الاستيراد فيتحقق التوازن في ميزان المدفوعات. 

العوامل المؤثرة في أسعار الصرف

إذن هناك نظامان رئيسان لتحديد أسعار صرف العملات، السعر الثابت والسعر الحر، وفي كلا الحالتين تتأثر أسعار الصرف وفق العرض والطلب على العملة الذي بدوره يتأثر بقوى العرض والطلب في الاقتصاد والدورات الاقتصادية.

التضخم والقدرة التنافسية

تتأثر العملة بأسعار السلع والخدمات داخل الدولة، فكلما كانت أسعار هذه السلع والخدمات أقل، مع الحفاظ على حد معين من الجودة، تفوقت الدولة في مجال التنافسية في الأسواق الخارجية، وبالتالي ارتفاع الطلب على عملتها، والعكس صحيح. لذا فالتضخم مؤثر غير مباشر في العرض والطلب على العملات، لكن من الممكن كذلك الحصول على قوة تنافسية عبر جذب الأسواق إلى جودة المنتجات أو تقدمها التقني، وليس فقط حسب سعرها، وبالتالي حتى إن عانت الدولة تضخما سعريا غير تنافسي فمن الممكن أن تجد رواجا لمنتجاتها لتوافر ميزات تنافسية أخرى.

معدلات الفائدة

تأتي أسعار الفائدة كجزء مكمل للتضخم، فكلما ارتفعت أسعار المنتجات داخل الدولة أثر ذلك في العملة بشكل سلبي، وللحفاظ على قيمة العملة تبدأ البنوك المركزية في رفع معدلات الفائدة على عملتها لجذب الأموال في شكل ودائع وسندات للاستفادة من العوائد المرتفعة، فيؤدي ذلك إلى رفع الطلب على العملة المحلية وارتفاع سعرها. 

 

 

الحساب الجاري والاحتياطي النقدي

يشتمل الحساب الجاري للدول على الصادرات والواردات والأصول الأجنبية والتحويلات المالية من وإلى الدولة، وجميع المعاملات المالية المتعلقة بالعملات الأجنبية التي اكتسبتها أو أنفقتها الدولة في فترة ما. وإذا حدث فائض في هذا الحساب فهو يضاف إلى الاحتياطي النقدي للدولة، ويعزز قيمة العملة نتيجة لارتفاع الطلب على عملة الدولة، في حين أن حدوث عجز في هذا الحساب يتم تمويله أيضا من الاحتياطي النقدي، حينها لن تتأثر العملة، لكن إن اضطرت الحكومات للحفاظ على الاحتياطي، وجذب رأس المال سواء عبر الاستدانة أو الاستثمارات فإن ذلك يؤدي إلى تراجع في قيمة العملة.  بسبب العجز في الحساب الجاري تراجعت قيمة الدولار الأمريكي في العامين 2006 و2007 بنسبة 7 في المائة.

 

 

الديون والمضاربات

تلعب الديون دورا مهما في مدى الإقبال على عملة الدولة، لذا فتخلف الدول في تسديد الديون المستحقة عليها، أو احتمالية حدوث ذلك، يدفع المستثمرين إلى بيع ما يملكونه من سندات مقومة بهذه العملة، وبالتالي يسهم ذلك في ارتفاع المعروض بصورة كبيرة ومن ثم انخفاض قيمة العملة، وهو ما حدث في أيسلندا عام 2008 بسبب مشكلات متعلقة بديون الحكومة ما أدى في نهاية المطاف إلى انخفاض سريع في عملتها.

كذلك شراء العملات لا يكون دائما بدافع الحصول على سلع وخدمات أو لتحقيق أرباح نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة وحسب، بل هناك شرائح من الأفراد والمؤسسات التي تضارب في العملة من أجل الحصول على ربح سريع. هذا النوع من المضاربين تحكمهم مشاعر الأسواق المالية أكثر من الحقائق الاقتصادية، لذلك أحيانا تكون هناك تقلبات في أسعار صرف العملة ليست بسبب تطورات اقتصادية لدى الدولة، بل بسبب نشاطات مضاربية من بعض شرائح المتعاملين في أسواق الصرف.

تأثير الركود الاقتصادي في سعر الصرف

في حال الركود الاقتصادي تنخفض معدلات الفائدة وتنخفض ثقة المستثمرين في الدولة نتيجة لارتفاع نسبة الديون مقابل الناتج المحلي الذي يكون متراجعا، وهنا قد تواجه البنوك المركزية ضغوطا كبيرة على احتياطاتها النقدية وربما تلجأ للاستدانة لتعويض سحب العملة نتيجة لأسعار الفائدة المنخفضة، أو العجز التجاري، وهذه سلسلة من الأحداث السيئة التي تؤثر سلبا في سعر العملة. وأفضل السيناريوهات أن يكون الركود الاقتصادي حالة عالمية وليس محليا فقط، حينها قد تنجو الدول من حدوث ضغوط مزدوجة على عملتها.

قوة العملة تأتي من قوة الاقتصاد

قوة العملة ليست لها علاقة بمقدار سعر الصرف كمبلغ، مثلا هناك عملات سعر صرفها المطلق أعلى من الدولار، كالدينار الكويتي والجنيه الاسترليني، ولا يعني ذلك أن هذه العملات أقوى من الدولار، فالعملة  تستمد قوتها من قوة اقتصادها ومدى ثقة الآخرين به، وكذلك تتأثر بقوة قائمة المركز المالي لدى البنك المركزي ومتانة البنوك التجارية، من حيث كفاية رأس المال وحجم أصولها، ومدى حرية تحرك رؤوس الأموال الأجنبية من الدولة وإليها.  مثل هذه العوامل هي التي تجعل اليوان الصيني لا يزال في منافسة ضعيفة أمام الدولار واليورو بسبب سيطرة البنك المركزي على العملة والتحكم بحركة العملات الأجنبية.

 

 

أزمة اليورو .. ردة فعل الولايات المتحدة أسرع نسبيا

تراجع اليورو خلال الفترة الماضية مقابل الدولار يستحق الدراسة، حيث نلاحظ عبر تطبيق عدد من العوامل المتسببة في تحريك أسعار الصرف نحو الأسفل أن منطقة اليورو وبريطانيا شهدت ارتفاعا في معدلات التضخم من 5.1 و5.5 في المائة خلال يناير الماضي إلى 8.6 و9.4 في المائة خلال يونيو الماضي، وذلك فارق كبير وسريع في الارتفاع أكبر مما شهدته الولايات المتحدة، التي ارتفع التضخم فيها من 7.5 إلى 9.1 عن الفترة نفسها. لكن الولايات المتحدة اتخذت إجراءات مبكرة نسبيا من خلال رفع معدلات الفائدة من 0.25 إلى 1.75 في المائة أي: سبعة أضعاف ما كانت عليه، وهو أكبر من سعر الفائدة في بريطانيا البالغ 1.25 في المائة أو خمسة أضعاف ما كانت عليه في يناير 2022. 

 

 

كذلك منطقة اليورو جاءت ردة فعلها متأخرة حيال معدل الفائدة البالغ صفر في المائة تقريبا، وتم رفعه لأول مرة منذ عام 2011 بمقدار نصف نقطة مئوية. ومن جهة أخرى تراجعت خلال النصف الأول من العام الجاري عدد من احتياطيات النقد الأجنبي لدى الدول كالولايات المتحدة بنسبة 3.2 في المائة، حتى إن الصين واليابان اللذين يملكان أكبر احتياطيات نقد عالميا تراجعت الاحتياطات الخاصة بهما 4.7 و5.4 في المائة على التوالي. 

الخاتمة

تحدثنا عن أسعار صرف العملات ومحدداتها، وأشرنا إلى أزمة اليورو أمام الدولار الأمريكي، وتأثير العوامل الاقتصادية ودور عملات الدول كاحتياطيات أجنبية لدى الدول في العالم، ما يشير إلى قوة العملة ومدى الموثوقية بها. 

 

نقلا عن الاقتصادية