استكمالا لما سبق الحديث عنه، سنحاول في هذه السطور تقديم شروحات مبسطة عن دور الفقه الاسلامي بشقه الخاص بالمعاملات في تطوير الاقتصاد والتمويل الاسلامي، وتحديدا سنحاول تقديم سطور مبسطة عن القواعد الفقهية الكبرى وتحديدا نماذج من قواعد أئمة المذاهب الفقهية في عصر الاجتهاد.
• العبرة في العقود بالمعاني لا بالألفاظ
هذه القاعدة لها أهمية قصوى في مجال المعاملات المالية. فهي من المعايير الأساسية في معرفة الصحيح من الفاسد من التصرفات ومعنى القاعدة: "أنه عند حصول العقد لا ينظر للألفاظ التي يستعملها العاقدان حين العقد، بل إنما ينظر إلى مقاصدهم الحقيقية من الكلام الذي يلفظ به حين العقد، لأن المقصود الحقيقي هو المعنى وليس اللفظ ولا الصيغة المستعملة، وما الألفاظ إلا قوالب للمعاني.
وبناء على هذه القاعدة: " اللفظ إن كان موضوعاً لمعنى شرعي، فعبر به عن معنى شرعي آخر بطريق التجوز نظراً إلى جملة ما يدل عليه كلام العاقد ومقصده منه، فيصير هو المعتبر. وذلك كما إذا قال شخص لآخر: وهبت لك هذه البقرة بجملك: كان هذا عقد بيع، ولا يمنع من ذلك التعبير بلفظ.
وقد تظاهرت أدلة الشرع وقواعده على أن القصود في العقود معتبرة، وأنها تؤثر في صحة العقد وفساده وفي حله وحرمته، بل أبلغ من ذلك، وهي أنها تؤثر في الفعل الذي ليس بعقد تحليلاً وتحريماً فيصير حلالاً تارة وحراماً تارة باختلاف النية والقصد.
ومن تطبيقاتها :
1- إن الكفالة المشروط فيها براءة ذمة المدين حوالة، والحوالة بشرط عدم براءة ذمة المدين كفالة... فيشترط فيها ما يشترط في الكفالة، ويطالب المحال كلا من المحيل والمحال عليه.
2- إذا شرط في المضاربة أن يكون كل الربح للمضارب: كانت في معنى القرض، فإذا تلف المال في يد المضارب يكون مضموناً عليه.
ومن القضايا المعاصرة المرتبطة بهذه القاعدة: تكييف الحساب الجاري على القرض. ويؤيد ذلك ما جاء في كلام الفقهاء حول عارية الدراهم. قال الإمام السرخسي: وعارية الدراهم والدنانير قرض، للأصل الذي قلنا: إن القرض بمنزلة العارية، والعارية في كل مالا يمكن الانتفاع به إلا باستهلاك لعينه يكون قرضاً.
وعلى هذا لو قال: "أودعتك هذا المال بشرط ضمانه"، أو "أذنتك في استثمار هذه الوديعة والربح لك بشرط ضمان رأس المال". أو نحوهما من العبارات سواء صرح بها وقت الإيداع، أو جرى بذلك العرف، كما هو الشأن في الودائع المصرفية، فالعبرة بالمعنى الذي بنيت عليه الصيغة، وهو هنا القرض.
جاء في قرار مجمع الفقه الإسلامي: "الودائع تحت الطلب (الحسابات الجارية) سواء أكانت لدى البنوك الإسلامية أو البنوك الربوية هي قروض بالمنظور الفقهي، حيث إن المصرف المتسلم لهذه الودائع يده يد ضمان لها وهو ملزم شرعاً بالرد عند الطلب.
ومنها ايضا: تغريم المدين المماطل، فتسمية الزيادة على الدين بالغرامة ونحوها لا يصرفها عن حقيقتها وأصلها وهي الربا، فالعبرة بالمقاصد لا بالألفاظ، والله تعالى إنما حرم الربا والزنا وتوابعهما لما في ذلك من الفساد، وأباح البيع والنكاح لما فيه من المصلحة، ولا بد أن يكون بين الحلال والحرام فرق، وإلا لكان البيع مثل الربا، والفرق في الصورة دون الحقيقة غير مؤثر، لأن الاعتبار بالمعاني، فإن الألفاظ إذا اختلفت ومعناها واحد كان حكمها واحدا، بخلاف العكس-أي: لو اتفقت ألفاظها واختلفت معانيها كان حكمها مختلفا-. فالأمر المحتال به صورته صورة الحلال، وليس حقيقته ومقصوده ذلك، فيجب ألا يكون بمنزلته، فلا يترتب عليه حكمه" وبوجه عام ذهب جمهور الفقهاء إلى بطلان الحيل المنافية للمقاصد
وكل تجارة وصناعة يخالف العبد فيها حكم الكتاب والسنة فليست بتجارة ولا صناعة حلال، وإن كان الاسم موجودا، لعدم المعنى الذي تصح به الأسماء في الحكم، لأن وجود الأسماء فارغة لا يغني مع عدم صحة المعاني...، فإذا كان ما يسميه الجاهلون تجارة وصناعة، وما يسميه المستحلون بيعا وشراء ومعاملة، وهو غير موافق للعلم، فليس ذلك بتجارة ولا صناعة ولا معاملة، ولا يستحل به أكل الحلال، لأنه باطل، واسمه عند العلماء خيانة وخلابة، أو غيلة، أو حيلة، أو مخاتلة. وهذه أسماء محرمة للمكاسب، لفساد معانيها، وعدم حقائقها، يتعلق عليها أحكام مذمومة، لا يحل بها أخذ المال
المراجع:
1- المدخل إلى قواعد الفقه المالي، د. علي أحمد الندوي، معهد الاقتصاد الاسلامي، جامعة الملك عبدالعزيز.
2- الأشباه والنظائر على مذهب أبي حنيفة النعمان، زين الدين ابن نجيم، دار الكتاب العلمية.
3- القواعد الفقهية وتطبيقاتها في المذاهب الأربعة، محمد مصطفى الزحيلي، دار الفكر – دمشق.
خاص_الفابيتا