إقتصاد الأنابيب ⁉️

28/02/2022 0
ندى الفايز

بصراحة شديدة إستلهمت عنوان مقالي بعدما قراءت العديد من المقالات والتحليلات الغربيه ومن شدة أعجبتني بروح الفكرة, باتت تطوق نفسي أن أحاكيها بمقال باللغة العربية ويكون لي بصمة ثقافية بذلك الصدد, خاصة وأنه معروف للعيان بأن العلاقات الدولية تقوم بالمقام الأول بحسب المصالح الاقتصادية لكن اليوم أصبحت تقوم أيضا بين الدول على أساس المصلحة أو الضرر من أنبوب غاز حديدي, إبتداء مماحصل في كلا من قطر وتركيا وسوريا وحتى ألمانيا وأوكرانيا ومن يدري ماهي نهاية قصة هذه الأنبوب الحديدي وماذا تخفي الصرعات العالمية من تداعيات على إقتصاديات الأنابيب الذي أخذ بالتطور ولن يعد قاصر على نقل الغاز والنفط بل تطور الأمر بصورة مذهلة وسوف يقوم أيضا بنقل البضائع والبشر من خلال  مايعرف بتقنية كبسولات أنابيب "الهايبرلوب" التي تفوق حتى سرعة الطائرات.

‏فمن بعد عصر الإقتصاد الرقمي وثروة المعلومات, إلى عصر إقتصاديات خطوط الأنابيب من المرجح أن تصبح العلاقات الدولية بين بعض الدول قائمة علي إقتصاديات تلك الأنابيب سواء في دول المنبع أو الممر أو المصب, خاصة وأن الإنتفاع من إقتصاديات الأنابيب يمكن أن يؤدي مستقبلا إلى تفكيك وحدة الدول أو الإنسحاب من تحالفات, كما أن الإتجاه العام يشير إلى ولادة نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب يتبع المصالح الإقتصادية أولا وأخيرا قبل حتى المصالح السياسية.

‏حرب أنابيب الغاز قادمة لا محال والشاهد هنا خط الأنابيب البحري الذي يعرف باسم "نورد ستريم 2" والذي كان من المقرر له نقل الغاز من روسيا إلى ألمانيا وهو "سلاح الأزمة الجيوسياسية" الراهنة وبذات الوقت سبب التوتر العالمي الحاصل بين روسيا وقارة أوروبا بأكملها, خط الأنابيب الذي يربط ألمانيا بروسيا والمسمى نورد ستريم 2 بإختصار شديد تعتبره واشنطن تهديدًا صارخا لمصالحها في قارة أوروبا بأكملها وكانت تحاول بشتى الطرق تخريب المشروع ومع ذلك فإن خط نورد ستريم2 قد مضى قدما وإنشاء فعليا, لكن بعدما أصبح جاهز للانطلاقة عمليات تسليم الغاز الروسي تم تجميده وإيقافه قبل أن يبدء فعليا بسبب تداعيات الأزمة الأوكرانية .

‏أمريكا لا تريد أن يهنئ قلب الأوروبيين قاطبة سواء أصحاب المنازل أو المصانع  بالحصول على مصدر إمداد موثوقًا للطاقة وغير مكلف خاصة وأن روسيا تملك كميات كبيرة من الغاز جعلتها الأولى عالميا بإنتاج وتوريد الغاز, لكن من الواضح أن الإدارة الأمريكية لا ترحب بمثل تلك المكانة الروسية ولا حتى تشجع الصفقات التجارية فيما بين روسيا وأوروبا ولا يريدون أن تصبح ألمانيا أكثر اعتمادًا على الغاز الروسي لأن التجارة سوف تبني جسور من الثقة وتبادل المصالح وتؤدي إلى توسع بالجوانب التجارية وبالتالي توسع الثقه والتقارب والعلاقات, مما يؤدي إلى تخفيف اللوائح  وتسهيل الأنظمة بين البلدين وزيادة السفر والسياحة بين ألمانيا وروسيا وعليه إذا ما أصبحت كلا من روسيا وألمانيا شركاء تجاريين بمصالح مشتركة لن يصبح  هناك حاجة لوجود قواعد عسكرية أمريكية  ولا ضرورة نشر الأسلحة وأنظمة الصواريخ الأمريكية, كما يمكن أن تنسحب ألمانيا من حلف الناتو الذي تعارضه روسيا  ناهيك أنه لن يكون هناك أيضًا تعامل بالدولار الأمريكي بصفقات شراء الطاقه أو غيرها ولا حتى تملك سندات الخزانة الأمريكية لموازنة الحسابات. 

‏وهذه ما تخشاه فعلا أمريكا ناهيك عن إمكانية أن يتطور الأمر ويتم إجراء المعاملات التجارية والماليه بين شركاء الأعمال بعملاتهم الخاصة مما يؤدي إلى حدوث إنخفاض حاد في الطلب على الدولار وبالتالي هبوط قيمته وتحول كبير في القوة الاقتصادية الأمريكية, وعليه يعد ماسبق الجزء الحقيقي والمخفي لأسباب معارضة  وتجميد إدارة بايدن لخط نورد ستريم 2 لأنه بحقيقة الأمر ليس مجرد خط أنابيب وحسب بل بوابة تقارب بين أوروبا وآسيا ومن المتوقع أن يمهد إلى نشوء منطقة تجارة حرة ضخمة تزيد من قوتهما المتبادلة وتساعد على تنمية الإزدهار مابين روسيا وألمانيا ومن ثم أوروبا, وتترك أمريكا وحيدة في معزل تنظر إليهم من بعيد بدون أن تحقق مكاسب أو مصالح منهم. 

‏وعليه فأن تنامي العلاقات التجارية والمصالح المشتركة بين ألمانيا وروسيا سوف يعجل بنهاية النظام العالمي الأمريكي "أحادي القطب" الذي إنفردت به الولايات المتحدة لسنوات عديده ومديده , ولذلك تخشي أمريكا  أن يمهد التحالف الألماني الروسي إلى تسريع إنهيارها كقوة عظمى ويجعلها تقترب من الهاوية خاصة إذا فكرت بقية دول أوروبا باللحاق بألمانيا والتوجه إلى روسيا وبالتالي التحرر من الهيمنه الأمريكية .

‏وعليه تنشط واشنطن على بذل كل ما في وسعها لإنهاء خط نورد ستريم2 وإبقاء ألمانيا بمعزل عن روسيا حتى تضمن واشنطن مسألة بقائها العالمي وهيمنتها الإقتصاديه التي لن تستمر إلا بإقصاء روسيا وكذلك الصين وكل من تسول له نفسه ويحاول الصعود عالميا وتخطي الدور الأمريكي ولذلك  تستخدم أوكرانيا كذريعه بل تعتبرها من الأدوات الازمه لإنهاء نورد ستريم2 نهائيا ووضع نهاية العلاقه بين ألمانيا وروسيا, ويعد ذلك بمثابة الإستراتيجية المكتوبة بالخط العريض : فرق تسد. 

‏ولإتمام ذلك بإحترافيه ومنهجية تحتاج أمريكا إلى خلق إنطباع عالمي بأن روسيا تشكل تهديدًا أمنيًا لأوروبا بأكملها, كما أنها بحاجة أن تجعل بوتين مجرم حروب متعطش للدماء والدمار ولا يمكن الوثوق به, وترسيخ ذلك عبر وسائل الإعلام بإعادته مرارًا وتكرارًا والترويح بأن روسيا بعد غزو أوكرانيا سوف تبتلع قارة أوروبا بأكملها وليس فقط جيرانها, واضح بأن أمريكا تحاول خلق تهديد خارجي مصطنع لإرغام أوروبا على منع خط الأنابيب بالأراضي الألمانية تحديدا وإيقاف التعامل مع الغاز الروسي منخفض القيمه وشراء الغاز الأمريكي أو حتى القطري مرتفع الثمن,‏ وبالمقابل لم يتم استهداف قطاع النفط الخام والوقود المكرر بالعقوبات الأمريكية في روسيا بسبب مخاوف بشأن التضخم والأضرار التي ستلحق بأسواق النفط العالمية وعموم المستهلكين وخاصة الأمريكيين التي مازلت حتى اليوم تستورد النفط الروسي .

رغم أن روسيا فعليا لم يسبق أن تغزو بشكل دموي أي دولة منذ تفكك الاتحاد السوفيتي, ودخلت للمناطق الشرقيه بأوكرانيا في البداية بهدف حفظ السلام والأمان لأنها تشهد توتر وهي من إستعاندت بها وكان يمكن يمرر ذلك دوليا كما يمرر لأمريكا من قبل, وبالمقابل أمريكا غزت ودمرت وسفكت دماء وأطاحت بعدة أنظمة خلال فترات زمنية متلاحقه سابقة, كما أن الولايات المتحدة تملك قواعد عسكرية في عدة دول حول العالم, ومع ذلك لا يوجد من يحاسبها, لكن ينصب التركيز على روسيا  التي حشدت جنودها على طول الحدود الأوكرانية ثم داخل المناطق الإنفصالية بهدف حفظ الأمن ومن ثم تطور الأمر بعدما تم الهجوم علي القوات الروسية ومن ثم تطو الموقف  وبالأساس أمريكا كانت تريد  نشر قواتها وصواريخها بداخل أوكرانيا وتهدد روسيا وبذات الوقت تريدها أن تقبل بتلك التهديدات رغم أن سكان تلك الأقاليم رافضين هيمنة الأمريكان ومتقبلين روسيا. 

‏وبذات السياق أمريكا حاولت ولو بطريقة غير مباشرة في البداية تحريض روسيا بل ودفع بوتين على الهجوم على أوكرانيا عبر التصريح أنها لن تتدخل لكن بوتين لم يبلع الطُعم في البداية حتى لا يتم تسويقه بالإعلام الإمريكي بأنه "هتلر العصر" لكن مجريات الأمور إختلفت وجرى ما جرى, ومن قبل ذلك أمريكا كانت ومازالت مستمره بعمل الدعاية الحربية  بهدف تصنيع أزمة مصطنعه للتمهيد لعزل روسيا وشيطنتها أمام العالم  ومن ثم معاقبتها وقد تتعرض ألمانيا وبقية الدول لذلك مستقبلا, ومن يدري ما هي المجازفات الأخرى التي ترغب أمريكا في تحملها ضمن محاولات إبطاء نهاية هيمنتها ومنع قيام أنظمة عالمية جديدة "متعددة  الأقطاب" من الظهور, وبالرغم أنه يمكن أن يحدث بالعالم أي شيء في الأسابيع المقبلة لأن العالم فعليا في مرحلة مخاض سياسي وسوف تولد لا محال  أنظمة متعددة الأقطاب, تشارك فيها العديد من مراكز القوة الناشئة بالتساوي خاصة وأن الوضع الحالي وإنفراد أمريكا بالسلطة لم يعد مقبول عالميا وخاصة الهيمنه على النظام المالي بالعالم.

 ختاما ,, يجدر التذكير بأن العقوبات على روسيا ستضر أسواق المال والطاقة العالمية ولن تستثني الولايات أمريكا بل وسيشعر المواطنون العاديون في أمريكا وأوروبا بكل عواقب ارتفاع الأسعار وبالنهاية  العقوبات ضد روسيا لن تحل شيئا, كما أن روسيا جهزت البديل فيما لو تم فصلها من نظام المدفوعات العالمي SWIFT ولديها نظام  SPFS الروسي الذي تم تدشينه عام 2016 م مما يمثل ضربة  لفعالية العقوبات الأمريكية المزعومة وعلية لن تكون عمليات إرسال واستقبال الأموال  شبه مستحيلة على روسيا أو تتعطل الشركات الروسية وعملاءها الأجانب لانها عملت علي تطوير نظامها المصرفي ونظام الدفع الخاص بها SPFS الذي يعد نظاما بديلا قائما عن SWIFT حيث بدأت بالتجهيز له في 2014م عندما ضمت شبه جزيرة القرم إليها ورغم حداثتة ومحدودية قدرات النظام الروسي المالي لكن جاري تطويره سريعا وسوف يصبح منافسا.

 وبذلك يتلاشي التخوف من عزل روسيا مالياً, ناهيك بأنها قد تعمل أيضًا إلى اللجوء إلى استخدام العملات المشفرة, خاصة أنها أضافت بنودا في عقود النفط والغاز تسمح بالدفع بعملات غير الدولار وعليه قد يصبح النظام الروسي ملجئ للعديد من الدول التي قد تخضع مستقبلا للعقوبات الأمريكية أو الأوروبية, مما سيُفقِد أمريكا تدرجيا سيطرتها العالميه وكذلك قدرة المخابرات الأمريكية على  رصد وتتبع حركة الأموال  بأكملها بالعالم, روسيا كذلك تحوطت إستباقيا لأي عقوبات مالية أو وقف تعاملات مع البنوك الروسية ويلاحظ أنها قفزت وإحتلت المرتبة 4  بأكبر احتياطي نقدي لدى دولة بالعالم, حيث بلغ إحتياطي النقد الأجنبيات العملات الأجنبية  لدى البنك المركزي الروسي ما يزيد على نصف تريليون دولار (أكثر من 631 مليار دولار) .

‏كذلك من ضمن أهم آليات التحوط الروسي الإستباقي الذي يدرس إبرام صفقة تصدير النفط الروسي للصين لمدة 10 سنوات تصل قيمتها إلى 80 مليار دولار, وإبرام إتفاق  لتوريد 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً للصين وبذلك ترفع إمدادات روسيا للصين إلى 48 مليار متر مكعب عن وضع الإمدادات الحالي وغير ذلك من أساليب التحوط الأستباقي ضد الصدمات الإقتصادية خاصة وأن رئيس روسيا حاصل على شهادة الدكتوراه بالإقتصاد وهو بالأساس خريج كلية القانون وعمل بجهاز المخابرات السوفيتي ومن ثم الروسي , وصمم نظام يحمي اقتصاد بلاده ممايرفع كثيرا من قدرة الإقتصاد الروسي على الصمود والذي أساسا لا يعاني من مشاكل عميقه مثلما يعاني الإقتصاد الأمريكي والأوروبي حيث ليس من المتوقع لهما أن يصمدان أمام الصدمات الإقتصادية وآثار وتداعيات الأزمة الحاصلة ومن يدري قد تحصل إنهيارات إقتصادية تعجل من سقوط دول عظمي وترفع من دول أخرى , خاصة وأن العالم أمام منعطفات تاريخية عظيمة وخطيرة للغاية. 

 

خاص_الفابيتا