إحجام شركات التعدين عن الاستثمار وتحول الطاقة

17/02/2022 0
د. نعمت أبو الصوف

توقع تقرير للبنك الدولي أخيرا أن العالم سيحتاج إلى أكثر من ثلاثة مليارات طن من المعادن والفلزات لتحقيق أهداف تحول الطاقة. هذا أكثر من ثلاثة مليارات طن من المواد الخام لاستخدامات الطاقة الشمسية، طاقة الرياح والبطاريات. البنك الدولي ليس الوحيد في هذا الجانب. ففي كانون الأول (ديسمبر) أفاد صندوق النقد الدولي IMF بأن الطلب المستقبلي على المعادن والفلزات قد يكون أعلى من المعروض العالمي الحالي. وذكر الصندوق أن الزيادة المطلوبة في الاستثمار في عمليات التعدين تمثل تحديا كبيرا.

من المؤكد أن الزيادة المتوقعة في الطلب هي أخبار جيدة لصناعة التعدين التي كانت تعاني على مر العصور انتقادات بسبب تأثيرها البيئي الكبير. الآن، من المفارقات، أنها على وشك التحول إلى صناعة لا غنى عنها لانتقال الطاقة. ومع ذلك، شركات التعدين الكبرى تعمل بحذر في اعتماد مشاريع جديدة والاستثمار بصورة مباشرة.

عندما يكون هناك أي نوع من النقاش حول انتقال الطاقة، تكون المعادن الداخلة في صناعة البطاريات، مثل النيكل والكوبالت وبالطبع الليثيوم، في دائرة الضوء. حيث تحتوي بطارية السيارة الكهربائية النموذجية على نحو ثمانية كيلوجرامات من الليثيوم، 35 كيلوجراما من النيكل، 20 كيلوجراما من المنجنيز، و14 كيلوجراما من الكوبالت. هذه المعادن، إذن، يجب أن تكون نقطة جذب لشركات التعدين الكبرى، وهي كذلك.

في هذا الجانب، خططت شركة Rio Tinto أخيرا لفتح أحد أكبر منجم لليثيوم في العالم في صربيا. لكن، المعارضة المحلية للمشروع أدت إلى إلغاء ترخيص الشركة الذي كان سيوفر مصدرا مهما لتوريد الليثيوم لشركات صناعة السيارات الأوروبية الطموحة التي تسير بخطى حثيثة نحو عصر السيارات الكهربائية بالكامل.

لذلك بدأت شركات التعدين الكبرى في عقد شراكات مع الشركات الناشئة العاملة في استكشاف معادن البطاريات وإنتاجها بدلا من شرائها بشكل مباشر. بالنسبة للشركات الكبرى، كان التوسع في معادن البطاريات بمنزلة توازن جيد بين الدخول في مجال انتقال الطاقة وإرضاء المساهمين.

يبدو أن مساهمي شركات التعدين الكبيرة، إلى حد كبير مثل مساهمي شركات النفط الكبرى، قد سئموا من دورة الازدهار والكساد التي تتميز بها صناعات السلع الأساسية ويفضلون الحصول على عوائد مستقرة. لكن، في الوقت نفسه، أصبح المستثمرون أيضا أكثر وعيا بمتطلبات المعايير البيئية والاجتماعية والحوكمة ESG، ومبادئ الاستثمار في معادن البطاريات التي تتناسب تماما مع هذه المعايير.

إذن، لماذا لا تستثمر شركات التعدين الكبرى دائما بصورة مباشرة؟ ببساطة لأنها لا تريد تحمل جميع المخاطر بمفردها. التعدين بطبيعته عملا محفوفا بالمخاطر، مرة أخرى مثل النفط والغاز إلى حد كبير. أولا، لا يمكنك أبدا التأكد من نجاح عمليات الاستكشاف. حتى لو كان الأمر كذلك، كما هو الحال في صربيا، فقد تواجه معارضة محلية قوية بما يكفي لإلغاء ترخيص المشروع. أو قد يكون المشروع في بلد غير مستقر سياسيا، مثل جمهورية الكونغو الديمقراطية، التي تنتج ثلثي الكوبالت في العالم. شركات المناجم لديهم حساسية من الدول غير المستقرة سياسيا حتى لو أجبروا على القيام بأعمال تجارية هناك. ثم هناك الفترات الزمنية الطويلة لعمليات التعدين، حيث إن الانتقال من نتائج الاستكشاف الناجحة إلى التعدين الفعلي قد يستغرق عقدا أو أكثر. في البيئة الحالية، يشير جميع التوقعات إلى زيادة سريعة وقوية في الطلب على المعادن والفلزات المستخدمة في البطاريات، لذلك من الأسرع التعاون مع الشركات الصغيرة التي قامت بالفعل بعملية الاستكشاف، بدلا من البدء من نقطة الصفر. في الوقت نفسه يبدو من الأكثر أمانا أن تتعاون مع هذه الشركات بدلا من شرائها على الفور.

على سبيل المثال، دخل عملاق التعدين BHP مع شركة التعدين الصغيرة كابانجا نيكل كشريك في أعمال الاستكشاف في تنزانيا باستثمار قدره 50 مليون دولار في المشروع. من المتوقع أن يتم الإنتاج الأول من منجم كابانجا عام 2025، وإلى جانب النيكل، سيشمل أيضا إنتاج النحاس والكوبالت. ووفقا لشركة استشارات الطاقة وود ماكينزي، هذا الاتجاه سيزداد في المستقبل. حيث تتوقع شركة استشارات الطاقة أن تدخل شركات التعدين الكبرى عام 2022 مناطق جغرافية جديدة من خلال الاستحواذ على مشاريع في مراحل مبكرة.

ومع ذلك، قد يبقى حجم الأموال التي ترغب شركات التعدين الكبرى في إنفاقها على هذه المشاريع محدودا بسبب ارتفاع أسعار السلع الأساسية. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الأمر غير منطقي، مع كل التوقعات الصعودية، لكن مع خبرتهم في الإنفاق الكبير وعواقبه، يبدو أن شركات التعدين قد تعلمت درسا قيما وأنهم غير مستعدين للمخاطرة كثيرا، حتى مع التوقعات الصعودية. بعد كل شيء، تبقى هذه مجرد توقعات بعيدة كل البعد عن كونها ثابتة.

في الواقع، قد تؤدي هذه التوقعات نفسها إلى كبح جماح مسيرة تحول الطاقة. يتوقف تحول الطاقة إلى حد كبير على التوسع في طاقة الرياح، الطاقة الشمسية والتخزين "البطاريات" التي أصبحت أرخص إلى حد ما من الوقود التقليدي، لأنه إذا لا يمكن تحمل تكاليف الطاقة منخفضة الكربون، فهي ليست بديلا عمليا لمعظم الناس. صحيح أن السكان في ألمانيا والمملكة المتحدة، على سبيل المثال، الذين يدفعون بالفعل أكثر مقابل طاقة منخفضة الكربون اعتادوا على ذلك، لكن إذا استمرت الأسعار في الارتفاع، فقد يتغير هذا أيضا.

بالفعل، مع تزايد تكاليف المواد الخام اللازمة لإنتاج الألواح الشمسية وطواحين الهواء، تشكو شركات الطاقة المتجددة أن أرباحها مهددة. يتجلى الاتجاه نفسه في المعادن الداخلة في صناعة البطاريات: قد يتعثر الاندفاع الكبير نحو عصر السيارات الكهربائية بالكامل عندما يصبح السعر النهائي لتلك السيارات مرتفعا للغاية، حتى مع وجود حوافز حكومية، لأن أسعار معادن البطاريات والنحاس المستخدم فيها قد يتضاعف بصورة مطردة بسبب تشدد المعروض.

صناعة التعدين عمل محفوف بالمخاطر. لكن يمكن أن تصبح أيضا عملا مربحا للغاية في البيئات التي تحفز الطلب على المعادن والفلزات، مثل انتقال الطاقة. ومع ذلك، لا يوجد سبب للشروع في كل شيء عندما يمكنك توزيع المخاطر بشكل متساو في حالة عدم نجاح الأمور كما تخطط لها الحكومات الداعمة لانتقال الطاقة.

 

 

 

نقلا عن الاقتصادية