بلغ الميزان التجاري للربع الثالث من هذا العام 131 مليار ريال، وهو بذلك يعود إلى مستويات ما قبل كورونا بأكثر من عام، كذلك ارتفع حجم التجارة الخارجية لمستويات أعلى من مستوياتها في بداية 2017 لتبلغ 421 مليار ريال، وهذا التحسن مهم في كونه يسهم في تحسين الحساب الجاري لميزان المدفوعات ويرفع من مستوى الفائض للحساب الجاري.
ماذا يعني الميزان التجاري وما أهميته؟
الميزان التجاري هو أحد مكونات ما يعرف بالحساب الجاري لميزان المدفوعات الذي بدوره عبارة عن رصد لحجم الأموال الداخلة إلى الدولة والخارجة منها، وميزان المدفوعات ينقسم إلى جزأين رئيسين: الجزء الأول هو الحساب الجاري الذي يندرج تحته الميزان التجاري وعوائد الأصول المالية المستثمرة في الخارج والأصول السعودية المستثمر بها من الخارج، إلى جانب جميع التحويلات المالية من وإلى الدولة. والجزء الثاني من ميزان المدفوعات هو الحساب الرأسمالي، وهنا نتجاوز بعض التعريفات والاختلافات في التسمية والمضمون فيما يخص الحساب الرأسمالي لنصل إلى نقطة أن هذا الحساب عبارة عن رصد لتداول الأوراق المالية مع العالم الخارجي، إلى جانب الاستثمارات الحقيقية الملموسة كامتلاك الشركات وبيع وشراء العقارات.
الميزان التجاري يحسب بطرح مجموع الواردات السلعية من مجموع الصادرات السلعية، وفي بعض الدول يشمل ذلك الواردات والصادرات الخدمية، وكان في السابق هناك تبويب خاص بذلك لدى الهيئة العامة للإحصاء، لكن لم نعد نرى ذلك ولم تذكر الهيئة ما إذا كانت التجارة الخدمية مشمولة من ضمن التجارة السلعية أم لا. وبهذه المناسبة، ورغم جهود الهيئة المتميزة إلا أن هناك شحا في بعض المعلومات المهمة التي إما أنها غير موجودة في موقع الهيئة أو أنها موجودة لكنها قديمة، ومثال ذلك أنه لا توجد بيانات عن ميزان المدفوعات ولا حتى الحساب الجاري.
وصلت صادرات المملكة خلال الربع الثالث إلى 276 مليار ريال وهذا يشمل الصادرات البترولية وغير البترولية وكذلك إعادة التصدير، لكن بالطبع معظم الصادرات هي بترولية بنسبة 75 في المائة. وجاءت الواردات بقيمة 145 مليار ريال، وبالتالي أصبح الميزان التجاري 131 مليار ريال.
وفي الوقت نفسه ارتفعت الصادرات غير النفطية من 46 مليار في أول 2017 إلى 69 مليار ريال في الربع الثالث 2021، أي: ارتفعت بنسبة 53 في المائة، وهذا يعد ربما أعلى قيمة للصادرات غير النفطية لفترة ثلاثة أشهر في تاريخ المملكة، بينما الواردات في الفترة نفسها ارتفعت فقط بنسبة 15 في المائة.
هل خفض الواردات يعد أمرا إيجابيا ومطلوبا؟
المملكة لديها فائض في الميزان التجاري، ونستطيع أن نعيد طرح السؤال ليكون هل فائض الميزان التجاري أمر إيجابي في كل الأوقات؟ الجواب ليس بديهيا كما قد يظن البعض، والسبب أن طبيعة الصادرات والواردات لها دور كبير في أهمية الفائض في الميزان التجاري. كيف؟
أولا، هناك دول كبرى لديها عجز مزمن في الميزان التجاري، وأهمها على الإطلاق وأكبرها هي الولايات المتحدة التي يصل العجز السنوي فيها إلى نحو 500 مليار دولار، والمملكة المتحدة التي يتجاوز عجزها 100 مليار دولار، ومثلهما دول كبيرة مثل فرنسا وكندا والهند. وبالمقابل هناك دول لديها فائض في الميزان التجاري منذ عشرات الأعوام، وأهمها وأكبرها ألمانيا واليابان والصين وغيرهم.
إذن: ما الفرق بين أن يكون لديك فائض أم عجز في الميزان التجاري؟
للدلالة على عدم أهمية تقليص الواردات في كل الأحوال، دولة الهند سعيدة هذه الأيام أن الميزان التجاري لديها تدهور في تشرين الثاني (نوفمبر) إلى عجز بمقدار 23 مليار دولار، السبب يعود إلى طبيعة الواردات، فليس كل الواردات سيئة وعبئا على الدولة. لدينا في المملكة للأسف أن معظم الواردات ليست من النوع الإيجابي، وبالتالي فتقليصها ربما يكون إيجابيا، السبب أن نحو 75 في المائة من وارداتنا هي لمنتجات جاهزة، أي: استهلاكية بحتة، ونحو 23 في المائة منها لمنتجات تسمى نصف مصنعة، وهذه جيدة لأنها تدل على وجود حركة صناعية تأخذ مكونات مختلفة وتقوم بتجميعها لإنتاج منتجات متنوعة، بعضها يستهلك داخليا وبعضها قد يجد طريقه إلى التصدير.
هذه المنتجات نصف المصنعة تندرج فيما يسمى نشاط التجميع الذي يعني استخدام أنظمة مكتملة لكن استخدامها كأجزاء فرعية لبناء منتجات كاملة، والأمثلة على ذلك مصنع سيارات إيسوزو في المملكة، الذي يقوم بتجميع الأجزاء المكونة لشاحنات إيسوزو لإنتاج شاحنات مكتملة. ونشاط التجميع لا يقل أهمية عن نشاط الصناعة البحتة، وكثير من المنتجات الصناعية حول العالم تتم بهذا الأسلوب الذي علينا رعايته وتنميته بشكل كبير.
أما النوع المهم جدا للواردات فهي المواد الخام التي غالبا تستخدم في العمليات الصناعية، وهذه نسبتها من واردات المملكة قليلة جدا، بحدود 3 في المائة فقط، وفي المقابل هذا ما يجعل الهند سعيدة بأن وارداتها بازدياد لأن معظم واردات الهند ليست لمنتجات جاهزة بل لمواد خام، وعادة ينظر إليها على أنها إشارة إلى تحسن الاقتصاد الهندي الذي يعتمد على المواد الخام بشكل كبير.
مثل هذه الأمور ليست غائبة عن خطط المملكة وبالذات في رؤية 2030، ولدى الهيئة العامة للإحصاء مؤشر مخصص لقياس النشاط الصناعي يسمى الرقم القياسي للإنتاج الصناعي، وهو يأتي حسب منهجية وبرنامج مسح شامل يتم فيه أخذ بيانات ميدانية من نحو ثلاثة آلاف منشأة صناعية، وهو عبارة عن المتوسط الموزون لثلاثة مؤشرات هي: مؤشر التعدين واستغلال المحاجر بوزن نحو 75 في المائة، ومؤشر الصناعات التحويلية بوزن 23 في المائة، ومؤشر إمدادات الكهرباء بوزن 3 في المائة.
ارتفعت قيمة مؤشر الرقم القياسي للإنتاج الصناعي بشكل طفيف في الأشهر القليلة الماضية وهو الآن في حدود 119 نقطة، وبذلك يكون قريبا لمستويات ما قبل كورونا، لكن لا يزال المؤشر أقل من مستويات حققها سابقا بقيم 135 و140نقطة.