الذئب في الذاكرة العربية مزيجٌ من البغض والتوجُّس والحذر والاحترام

24/11/2021 0
عبدالله الجعيثن

الذئب جزء هام من بيئة العربي، فهو ربيب الصحراء، وعدو الرعاة وملاّك الأغنام، ومثال على السطو والاعتداء، ومع ذلك فله في الذاكرة العربية مزيج غريب من البغض والخوف، الحذر والتوجس، بل والاحترام والاقتداء عند بعضهم مع الأسف ممن يوصي ابنه فيقول (كن ذئباً)..

والعرب ترمز بالحيوانات وسلوكها لأمور كثيرة، ترمز بالكلب للأمور الحقيرة، وبالحمار للذل، وبالغراب والبوم للشؤم، أم الذئب فيرمزون به لليقظة والحذر، حتى في الشعر الساخر نجد الذئب محترماً:

إن ذئباً مسكوه

وتمادوا في عقابه

قال شيخ زوجوه

ودعوه في عذابه!

فالسخرية من الزواج الذي يعذب حتى الذئاب!

ويفخر بعض شعراء العرب بمصاحبة الذئب في وحشة الصحراء.. يعتبرون هذا دليلاً على الشجاعة والضيافة وقوة القلب..

يقول الأُحيمر السعدي:

«أراني وذئبَ القَفْرِ إِلْفَين بعدما

بدأنا كلانا يشمئزُّ ويذعرُ

تألَّفني لما دنا وأَلِفْتُه

وأمكنني للرمي لو كنتُ أَغْدُرُ

ولكنني لم يأتمِنِّي صاحبٌ

فيرتابُ بي، ما دام لا يتغيَّرُ»

وقول الأحيمر: بدأنا كلانا يشمئز ويذعر.. أي من الناس.. فقد كان الأحيمر لصاً مهدور الدم فهرب من الناس وكرههم وألِف الوحوش وهو الذي يقول:

«عوى الذئبُ فاستأنستُ بالذئب إذ عوى

وصوّتَ إنسانٌ فكِدتُ أَطيرُ»

وصعاليك العرب خاصة يفضلون - بعضهم على الأقل - صحبة الذئاب على صحبة البشر، وبعض هؤلاء الصعاليك يشبه الوحوش في مظهره وسرعة عدوه وحذره وشدة فتكه كتأبط شراً والشنفري الذي يقول في لاميته المشهورة مفضِّلاً صحبة الذئب والوحوش على صحبة الناس والأهل:

«ولي دونكم أهلون سِيْدٌ عملَّيٌ

وأرقطُ ذهلولٌ وعرفاء جيألُ

ونجد شاعراً متحضراً - وإن كان له فصاحة الأعراب - يدعي أنه أضاف الذئب وهو وحيد بليل، ذلكم هو الفرزدق الذي يقول:

«وأطلسَ عسَّالٍ وما كان صاحباً

دعوتُ بناري مَوْهِناً فأَتاني

فلمّا دنا قلتُ: ادنُ دونَك إنني

وإياك في زادي لمشتركانِ

فَبِتُّ أُسَوِّي الزاد بيني وبينَهُ

على ضوءِ نارٍ مرّةً ودُخَانِ».

وشعر الفرزدق بليغ ولكن قصته - التي أظنها مزعومة - مع الذئب يكررها فيقول:

«وليلةَ بتنا بالعرينين ضافنا

على الزادِ ممشوق الذراعين أطلسُ

تلمَّسنا حتى أتانا ولم يزلْ

لدن فطمته أمُّهُ يتلمَّسُ

فقاسمتُهُ نصفينِ بيني وبينَهُ

بقيةُ زادي، والركائبُ نُعَّسُ»

وأبى كعب بن زهير أن يشتري غنماً خشية على ماله من الذئب:

«تقول حيّاي من عوف ومن جَشَمٍ:

يا كعبُ ويحك لِم لا تشتري غنما؟

أخشى عليها كسوباً غيرَ مُدَخرٍ

عاري الأشاجع لا يشوي إذا ضغما

والعرب قبل الإسلام كانوا تقريباً يعيشون تحت طائلة قانون الغاب، القوي يأكل الضعيف، وكذلك وسط الجزيرة العربية قبل أن يوحدها صقر العروبة وبطل الإسلام الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وإذ يسود قانون الغاب يُعْجَبُ الناس بالذئاب، ففي حال كهذه الإنسان غالباً قاتل أو مقتول، آكل أو مأكول، ولهذا قالوا: (كن ذئباً وإلاّ أكلتك الذئاب).. ومع أن الذئب يأكل غنمهم ويروعهم إلا أنهم يعجبون بجرأته وحذره وفتكه لأنها صفات تحمي في شريعة الغاب، قال شاعرهم يمدح الذئب:

«ينام بإحدى مُقْلتيهِ ويتَّقي

بأُخرى المنايا فهو يقظان نائمٌ»

وهذه الصفة ضرورية في الغابة..

ومع ذلك فالإنسان المنفلت من الدين والأخلاق والسلطة أضرى من الذئب، الذئاب لا تأكل بعضها ولا تقتل بعضها، ويندر أن تأكل الإنسان إلا مضطرة، والإنسان المنفلت يقتل أخاه الإنسان ويأكل أموال الناس بالباطل.

ويقول المثل الشعبي:

»إذا عوى الذئب تحسّب عواقبها»..

بمعنى استعد وتوجّس وتوقّع شراً حين تسمع عواء الذئب، فهو منك إذن قريب، وهو بعوائه يستدعي رفاقه الذئاب استعداداً للهجوم المكثَّف.. والإغارة على الأغنام.. والأغنام هي الحلال.. رأس مال الأعرابي الإبل والغنم.. وفريسة الذئاب المفضلة هي الأغنام.. وحين تهجم الذئاب.. أو ذئبٌ واحد حتى.. فإنها لا تكتفي بقتل ما يكفيها من الغنم.. بل تعيث قتلاً في الأغنام قدر الاستطاعة.. لكي تحصل على لحومها فيما بعد.. حيث لا يأكل العربي - وأظن ذلك حتى قبل الإسلام - ما قتل السبع.. ويقول المثل العربي «أغدر وأخبث وأكسب من ذئب» فهو - الذئب - في الذاكرة العربية لا يؤتمن أبداً، ويرمز له بمن هو على شاكلته، ولكنه من ناحية مشوب بالإعجاب لقدرته على الكسب والنهب!..

وفي شعرنا الشعبي يرمز بالذئب أيضاً على قوة التعاون وضعف التفرق.. قال محمد السياري:

«رَجْلٍ بلا ربعٍ صبورٍ على الخطا

إلى صار ما حوله طوال أشنابْ

كما يرمز بالذئب للحيلة وتحيُّن الفرص قال الشريف بركات:

»يا ذيب وان جتك الغنم في مفاليك

فاكمن إلى حيث الرعايا تعدَّاكْ

من اول يا ذيب تفرس باياديكْ

واليوم جا ذيبٍ عن الفرس عدَّاك»

فلكلِّ شيء آفة!

 

 

نقلا عن الرياض