"يا أنتَ يا أحدَ الطُّفارى"

08/11/2021 2
عبدالله الجعيثن

من معاني طفّره في بعض المعاجم جعله بلا مال، ومع ذلك وضعت العنوان بين قوسين لأنه اقتباس من أمل دنقل في شطر بيت.. مع التعديل.. وأمل دنقل نفسه كان على طول طفران ولا يعترف بزمانٍ ولا مكان، حتى إنه هرب فجر ليلة زواجه ولم يعد إلا آخر الليلة الثانية كما تقول زوجته السيدة عبلة في كتابها (الجنوبي) وتعلق على هذا التصرف قائلة (كان أول القصيدة كفرًا)..

والفقر ليس عيبًا، العيب هو العزوف عن العمل والكفاح واستلذاذ الخمول والكسل، أما الذي يعمل ويجتهد ومع ذلك يُصاب بالفقر فله كامل الاحترام ومن حقه على المجتمع أن يُعان بلا منٍّ ولا أذى ، ومن علامات رُقي المجتمعات احترام الضعفاء والفقراء وتزويدهم بما يكفيهم حقًا مشروعًا.. وديننا الحنيف يفرض للفقراء حقًا واجبًا في زكاة المال، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول (إنما تُنصرون وتُرزقون بالضعفاء والمساكين)..

ولكن تاريخنا العربي العلمي والأدبي مليء (بالطفارى) من المشاهير ومنهم أبوحيان التوحيدي الذي قال من شدة الفقر:(كرِهت البشر وأكلت أوراق الشجر) وابن المقفع أدركه فقر مدقع آخر عمره حتى خلا منزله المستأجر من كل شئ وفوق هذا البلاء جاءه المالك يطلب الأجرة فقال:

(وصاحبُ البيتِ يطلبُ الكِراء.. وليس في البيتِ سوى البيتِ)

وأبو الشمقمق الذي له قصائد عديدة طريفة في إملاقه وإفلاسه نكتفي منها بقوله:

ولقد أهزلتُ حتى ** مسحتِ الشمسُ خيالي

ولقد أفلستُ حتى ** حلّ أكلي لِعِيالي!

وغيرهم كثير من المشاهير، أما المجاهيل فهم بلا عدد، خاصة قبل استحداث أنظمة التأمينات والضمان الاجتماعي، وأول من سنّ هذه السنة الحسنة هو الفاروق رضي الله عنه، حين رأى يهوديًا مُسناً يطلب الصدقة فتحقق الفاروق من حاله ثم أمر خازن بيت المال أن يفرض له ولكل عاجز مثله ما يكفيه هو وأسرته، وعلى هذه السنة الحميدة سار الخلفاء والولاة من بعده، وطبقها الغرب في العصر الحديث فقط، بعد تطبيقها لدى المسلمين بأكثر من 1300 عام.. ومنها إعانة البطالة في الغرب بشرط أن يجِد العاطل في البحث عن عمل ويقبل به إذا وجد أو يكون عاجزًا عن العمل لسبب مقبول، ومع ذلك لم يخلُ الأمر من التحايل في القديم والحديث، في أمريكا اكتشفوا أسماء كثيرة لأموات يستلم وكلاؤهم إعاناتهم عدة سنوات بعد الموت..

وزياد بن أبيه أمر وهو وال خازنه أن يفرض راتبًا شهريًا للعجزة والأيتام والعميان، ودخل عليه رجلٌ طويل عريض ومعه شاب كالبغل جسمًا ونشاطًا وقال:

أيها الأمير اكتب ابني هذا في الأيتام!

فنظر إليه زياد باستغراب وقال:

ولكنك أبوه موجود وسليم!

فرد الرجل:

ولو، فوجوي كعدمه!

فهز زياد رأسه وقال لكاتبه:

اكتب هذا البغل في الأيتام فمن كان هذا أبوه فهو يتيم!

فقال الرجل الصفيق:

واكتبني في العُميان!!

فحدّق زياد فيه وعرف أن نظره ستة على ستة ولكنه قال لكاتبه:

واكتب هذا في العُميان! فإن الله عز وجل يقول:

(إِنّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ).

 

نقلا عن الرياض