قرأت كل ما وجدته في مكتبتي عن أبي فراس وراكان، وأعتقد أن مفتاح شخصية الأول هو (السيادة) وحبها ومفتاح شخصية الثاني هو (القبيلة) وحبها..
فأبو فراس يريد أن يكون سيداً في كل شيء: في الإمارة.. والفروسية.. والشعر.. ورغم أنه مؤهل لذلك في زمانه، إلا أن النساء ولاَّدة،. وقد ولدن في زمانه سيف الدولة الحمداني وكان أقدر منه في السياسة، والمتنبي وكان أروع منه في الشعر، وبين الاثنين عاش أبو فراس اضطهاداً غير مُعْلن، ثم جاء الأسر والسجن فزادت عقدة الاضطهاد.. ومما يدل على أن (السيادة) هي غايته ومفتاح شخصيته - وهو لها في الواقع أهل - قوله:
أيام عزي ونفاذ أمري
هي التي أحسبها من عمري
وقوله:
من كان مثلي لم يبتْ إلا أسيراً أو أميراً
وقوله:
سيفقدني قومي إذا جدّ جدهم
وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر
وربما كان هذا البيت من أسباب تلكؤ سيف الدولة في فدائه ليكسر غروره ويثبت له أنهم لم يفقدوه، هو الذي فقدهم..
أبو فراس يبحث عن السيادة في الامارة.. الفروسية.. الشعر.. وقد فقد الاولى لوجود سيف الدولة.. ودفع حياته ثمناً لها بعده.. وفقد سيادة الشعر بسبب وجود المتنبي.. والمشكلة أن المتنبي كان حاضراً أمام عينيه وبلاءً ينافسه في الشعر والشهرة ويغلبه، وفي حب سيف الدولة، حتى بلغ من حنق أبي فراس عليه أن قذفه في مجلس سيف الدولة بكلام جارح وقذفه بدواة جرحت جبينه وأسالت دمه وأضحكت سيف الدولة فقال المتنبي مرتجلاً:
إن كان سرّكم ما قال حاسدنا
فما لجرح إذا أرضاكم ألم
والمتنبي خبيث حين قال (حاسدنا) يقصد أنه يحسد سيف الدولة والمتنبي معاً!.
وكان أبو فراس مزهواً بنفسه حتى في السجن، ولكن حين لبث في سجنه بضع سنين ليّن الدهر منه ما قسى، وأعان سيف الدولة الدهرَ عليه، حين لم يقبل أن يفديه، وكأن سيف الدولة يخاف من ملكه عليه، أو يريد أن يشعره انه ليس بتلك الأهمية التي يدعيها، وأن أمور الدولة سائرة بدونه..
أما راكان بن حثلين فحياته هي قبيلته (العجمان) يحبها ويريد انتصارها دائماً، وقد استطاع بث الحماسة في رجالها، وبعث الطموح، حتى وهو سجين حنينه إلى قبيلته:
رَبْعي ورا الصَّمان وأنا بالأروام
من دونهم يزمي بعيد الرجوم
وأشد ما يؤلمه في الدنيا أن تفقد قبيلته عزها:
لا من ذكرتْ رموس عصر لنا زال
وشوف الفياض وفقد عزّ القبيله
وحين يرى المطر من قضبان السجن يحن للقبيلة ويود أن يأتيهم مثل هذا المطر..
يا الله يا عالم كاين وما كان
يا واحد كل امته يرتجونه
تفرّج لمن هو بين الاتراك منهان
من غير قاصر دارهم لي مهونه
ودي بشوف ديار مروين الاسنان
اهل الشهامه والوفا والمعونه
الله يسقي دياركم يا عجمان
وبْل من المنشا تكاشف مزونه
وأجمل أوقاته وأصيبها حين يشرب القهوة مع رجال قبيلته:
ومن عقب ذا ياما حلا شرب فنجالْ
في مجلس ما فيه نفس ثقيله
هذا ولد عم وهذا ولد خالْ
وهذا رفيق ما لقينا بديله
وكل القبيلة بالنسبة لراكان أبناء عم.. وأهل..
وأبو فراس فشل في تحقيق هدفه (السيادة) ودفع حياته ثمناً لذلك وهو دون الأربعين، حين ثار على خليفة سيف الدولة بعد وفاته، وهو ولده الصغير، فسار إليه (قرعويه) مولى سيف الدولة والوصي على العرش وقتله..
أما راكان بن حثلين فقد نجح تماماً في تحقيق هدفه الذي نذر نفسه له، وهو عز القبيلة.
ورغم فارق ألف عام بين أبي فراس وراكان إلا انهما تجمعهما صفات كثيرة، وهذا عجيب، الفروسية بكل معانيها، والشعر، والامارة، والأسر، والسجن، والتحديات الكبيرة..
٭ ٭ ٭
لقد تحدثنا كثيراً فلندع الشعر الجميل هو الذي يتحدث..
إن من أجمل الشعر في أدبنا العربي كله (روميات أبي فراس) وهي التي قالها وهو سجين بخْرشَنَة لدى الروم، وقد بلغه أن أمه ذهبت إلى سيف الدولة تكلمه في فداء ابنها.. وتستعطفه.. فردها خائبة.. فقال وكان شديد التعلق بأمه..
يا حسرة ما أكاد أحملها
آخرها مزعجٌ وأولها
عليلة، بالشام مفردة
بات بأيدي العدى معللها
تمسك أحشاءها على حرق
تطفئها والهموم تشعلها
تسأل عنا الركبان جاهدة
بأدمع ما تكاد تمهلها
يا مَنْ رأى لي بحصن خرشنة
أسد شرى في القيود أرجلها
يا من رأى لي الدروب شامخة
دون لقاء الحبيب أطولها
يا من رأى لي القيود موثقة
على حبيب الفؤاد أثقلها؟
إلى آخر القصيدة..
ولست أدري لماذا يحزن أبو فراس أمه بوصف حاله فوق ما هي حزينة؟ أهو الضعف البشري والشكوى حين تفيض النفس؟ أم هو وصف الحال لكي يرق قلب سيف الدولة خاصة أن باقي القصيدة موجه له؟ كل المعاني واردة ولكن إدماء قلب الأم وهو دام أصلاً.. لا داعي له.. ثم يتوجه لابن عمه سيف الدولة: بقصيدة منها:
ليست تنال القيود من دمي
وفي اتباعي رضاك أحملها
يا سيداً ما تَعدُّ مكرمة
الا وفي راحتيه أكملها
أنت سماءٌ ونحن أنجمها
أنت بلاد ونحن أجبلها!
أنت سحابٌ ونحن وابلُهُ
أنت يمين ونحن أنملها!
بأي عذر رددت والهةً
عليك دون الورى معولها؟
انه عتاب المحتاج، عتاب يكاد يتحول إلى هياج رغم المديح، وللحق فأبوفراس كان دائماً معجباً بسيف الدولة، ولكن أبا فراس شاعر وفنان وفارس ولا يعرف خفايا السياسة وخباياها.. ويستغرب أن سيف الدولة يبذر الأموال على الشعراء - وأولهم منافسه المتنبي - ويبخل بفدائه كأنما قدم النافلة وأهمل الفرض - في رأي أبي فراس - وهو ما يؤيد اعتقادنا بجهله لخفايا السياسة وخبثها:
يا واسعَ الدار كيف توسعها
ونحن في صخرة نزلزلها؟
يا ناعمَ الثوب كيفَ تبدله
ثيابنا الصوف ما نبدلها
حتى قال:
يا منفق المال لا يريد به
إلا المعالي التي يؤثلها
أصبحت تشري مكارماً فضلاً
فداؤنا قد علمت أفضلها
لا يقبل الله قبل فرضك ذا
نافلة عنده تنفلها
معه حق ولكن سيف الدولة السياسي له رأي آخر..
رسالة إلى أمه
وبعد هذه القصيدة المؤثرة بزمن، وسيف الدولة لم يستجب، قال أبو فراس في رسالة إلى أمه، وفيها يذكر انه لولاها ما طلب الفداء:
لولا العجوز بمندج
ما خفت أسباب المنيِّهْ
ولكان لي عما سألت من الفدا نفسْ أبيه
لكن أردت مرادها
ولو انجذبت إلى الدنيِّه
وارى محاماتي عليها أن تضام من الحميِّه
أمست بمنبج حٌرَّةً
بالحزن من بعدي حريه
لكنّ قضاء الله والأحكام تنفذ في البريه
والصبر يأتي كل ذي رزء على قدر الرزيه
لا زال يطرق منبجاً
في كل غادية تحيه
فيها التقى والدين مجموعان في نفس زكيه
وفي سجنه رأى وسمع - من النافذة - حمامة تنوح على شجرة بقرب النافذة فقال مقطوعته الشهيرة:
أقول وقد ناحتْ بقربي حمامة
أيا جارتا لو تشعرين بحالي
مَعَاذَ الهوى ما ذقْت طارقةَ النوى
ولا خطرت منك الهموم ببال
أتحمل محزون الفؤاد قوادمٌ
على غصن نائي المسافة عال؟
ايا جارتا ما أنصف الدهر بيننا
تعالي أقاسمك الهموم تعالي
تعالي تري روحاً لديّ ضعيفة
تردد في جسم يعذب بال
أيضحك مأسور وتبكي طليقة
ويسكتُ محزونٌ ويندب سالي؟
لقد كنت أولى منك بالدمع مقْلةً
ولكن دمعي في الحوادث غال
وهي مقطوعة مشهورة وردت في أكثر المقررات الدراسية وحفظها أجيال بعد أجيال من العرب.. وسبق أن ذكرنا بعضها حين الحديث عن القصيدة الغزلية من مأثورنا:
(يا حمام على الغابة ينوح)
ورغم أن شمس المتنبي الشعرية كادت تكسف بكوكب أبي فراس الشعري، إلا أن الأخير أقرب إلى المشاعر الإنسانية، والصدق الوجداني، والعفوية، وأبعد عن امتهان الشعر كما فعل المتنبي متكسباً - وقد لا يلام لظروفه المادية مقارنة بوضع أبي فراس - ولكنه يلام في مدحه المفرط لكافور ثم هجائه المقذع له..
٭ ٭ ٭
أما راكان بن حثلين فقد لبث في سجن الاتراك سبع سنين، وكان سجانه يُدْعَى حمزة، وينطق العربية بلهجة مصرية، ربما عمل في مصر طويلاً، حين كانت مصر تحت حكم الأتراك، وقد أحبه هذا السجان، وكان راكان كثيراً ما يخاطبه في قصائده..
وأعتقد أن أجمل ما مرّ على راكان في سجنه، إن كان في السجن شيء جميل، رؤية المطر يهطل بغزارة من خلال نوافذ السجن في بلاد الترك الممطرة، وراكان أعرابي يحب المطر ويحن له، وكأنني أراه يتمناه على الصمان والدهناء ومرابع العجمان.. قلبه مع قبيلته دائماً..
قال الأستاذ عبدالله اللويحان في كتاب (روائع من الشعر النبطي) ص 216: «لما كان في سجن الأتراك رأى في ليلة من الليالي برقاً فقال لسجانه واسمه حمزة:
ما تخيَّل البرق؟ (أي كيف مطره؟)
فقال: زي بعضه يا راكان مالنا فيه حاجة!!
فجادت قريحة راكان بهذه الأبيات:
أخيِّل ياحمزة سنا نوض بارق
يبوج من الظلما صناديس سودها
على ديرتي رفرف لها مرهش نشا
وتقفاه من دهم السحايب حشودها
فياحَظّ من ذعذع على خشمه الهوى
وتنشَّق من ريح الخزامى فنودها
وتيمَّم الصمَّان إلى نشفَ الثرى
من الطف والا حادر من نفودها
يبري له سلفان اليَّا ناض بارق
نحتْ له وهو نازح من حدودها
حريبنا نسقيه كاس من الصدى
والحبة الزرقا لكبده برودها
وخشوم طويق فوقنا كنْ وصفها
صقيل السيوف اللي تجدد جرودها
بمذلقات الهند والشلف كنَّها
ألْسن سلاقي متعبتها طرودها!!
انه مبدع كأبي فراس الحمداني فهو يشبه رماح قومه في الحرب بألسنة السَّلَق التي تعبت من الطرد فألسنتها تخرج وتدخل بسرعة عظيمة!!.. وهو تشبيه رائع..
أما البيت الذي قبله في وصف خشوم
جبال طويق فيذكرني بقول عمرو بن كلثوم:
فأعرضت اليمامة واشمخرتْ
كأسياف بأيدي مصلتينا..
ومثل شبيهه أبي فراس، رأى راكان بن حثلين - من قضبان سجنه العتيق - طيراً يحوم في السماء فتنهد وقال:
لا واهني يا طير من هو معك حامْ
والا انت تنقل لي حمايض علومي
ان كان لا من حمت وجهك على الشامْ
بايسر مغيب سهيل تبغى تحوم
باكتب معك مكتوب سرولا الامْ
ملفاه ربع كل ابوهم قروم
سلّم على ربع تنشد بالاعلامْ
لا واهني من شافهم ربع يوم!
ربعي ورا الصمان وأنا بالأروام
من دونهم يزمي بعيد الرجوم
ويشكو مواجع السجن:
الله من عين لها سبعة أعوامْ
تسهر وتبكي من كثير الهموم
الحال باد وباقي جسم وعظامْ
كنّه مريض واقع ومحموم
وقعت أنا في ديرة ما بها اسلام
والبن الاشقر ما يدار معدوم
سجين سجن ولاجي عند ظلامْ
ودوني بحور وبالحديد محزوم
والجفن يسهر تالي الليل ما نامْ
ومن جملة الكيفات صرت محموم
وعزِّي لمن مثلي عليه الدهر هامْ
مقصور رَجْل ولا جزع ما يشوم
وصلاة ربي عد من يلبس حرام
واعداد ما تذري ذواري سموم
على نبي خصه الله بالاكرام
على جميع الخلق صار محشوم
نقلا عن الرياض
كفيت أستاذنا / عبد الله - مقال جميل ورصين يتسم بحسن الإختيار والإنتقاء