أبو فراس الحمداني، الشاعر والفارس المشهور، يعود نسبه إلى (تغلب) تلك القبيلة العظيمة التي أنجبت روائع الفرسان من أمثال السَّفاح التغلبي وكليب والزير سالم وعمرو بن كلثوم.. وغيرهم كثير..
وعمرو بن كلثوم وحده من أشد الناس وأكثرهم شراً على مَنْ فيه شر، حتى انه قتل عمرو بن هند ملك العرب في وقته، والملقب ب (مُضرط الحجارة) لقسوته وبأسه.. قتله في خيمته وبسيفه نفسه! أي سيف عمرو بن هند!.. وقال معلقته الشهيرة.. والشريرة.. وألقِّبها بالشريرة لشدة ما فيها من الفخر بالظلم وإن كان عصر عمرو بن كلثوم عصر ظُلْم فعلاً، ومن لا يظلم الناس فيه يُظْلم، عصر الجاهلية.. وقانون الغاب.. وعمرو بن كلثوم خير من يفهم قانون الغاب وشرُّ من يُطبق الظلم ويبدأ به في عصر لا يعيش فيه غير الظالم العنيف القوي.. ومما يدلُّ على أن عمرو بن كلثوم شرٌ منَّزل وأنَّ معلقته الشهيرة يُمكن أن يُطلق عليها (المعلقة الشريرة) قوله:
بغاةً ظالمين وما ظلمنا
ولكنَّا سنبدأ ظالماينا!!
فهو سيبدأ بالظلم عيني عينك!) ولو لم يظلمه أحد ولا يستطيع أن يظلمه أحد في اعتقاده، ويفتخر بالبغي!!
وقوله:
لنا الدنيا ومَنْ أمسى عليها
ونبطش حين نبطش قادرينا..!
(والمشكلة انه قول وفعل!)
وقوله:
إذا بلغ الفطَام لنا صبيٌ
تخرُّ له الجبابُر ساجدينا!
جاهلي!.. بل شرٌ مْنزل في عصر شر..!
٭ ٭ ٭
إذن فأبو فراس الحمداني ينحدر من تلك القبيلة العظيمة (تغلب) والمليء تاريخها بالفروسية والفرسان.. وبالمآثر والأمجاد.. ومن عائلة (بني حمدان) التي لها الامارة في الشام ولها الصدارة بين العائلات..
وقد كان أبو فراس طويلاً جميلاً.. فارساً مغواراً وشاعراً مبدعاً.. وأميراً نبيلاً.. ولكن كل هذه الصفات المميزة فيه كادت تضيع في وقته لوجود رجلين:
الاول: ابن عمه سيف الدولة الحمداني الذي كان أعرق منه في الامارة وأدهى في السياسة..
والثاني: ابو الطيب المتنبي الذي كسف شعره بأشعار الأولين والآخرين، وأولهم معاصره أبو فراس، على جمال شعر الأخير وشدة اعتزازه بشعره..
ورغم أن أبا فراس كان يحب سيف الدولة أو يتظاهر بذلك، إلا أنه في أعماقه ربما كان يرى نفسه أولى بالامارة، ويطمح لها، لهذا تلكأ سيف الدولة طويلاً في فداء أبي فراس حين سجنه الروم، وتعلل بأعذار ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب..
ولد أبو فراس في الموصل - وقيل في (منبج) سنة 320 وقتل سنة 357 بعد أن ثار على ابن سيف الدولة طمعاً في الامارة..
وكان شديد التعلق بأمه، باراً بها، خاصة انه عاش يتيماً إذ أن أباه مات قتيلاً على يد أخي سيف الدولة الحمداني، لأنه سعى للاستقلال بالموصل، فنشأ أبو فراس في كنف سيف الدولة، وفي عائلة قال عنها الثعالبي صاحب كتاب يتيمة الدهر 1/27 «كان بنو حمدان ملوكاً وأمراء أوجههم للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرجاحة».
قلت: الوصف الأخير مشكوك فيه، فقد كانت الخلافات والثورات بينهم كثيرة، وهذا لا يدل على رجاحة عقل.. ومع ذلك فإن لأبي فراس أبياتاً صادقة في الحكمة، تدل على عقل وتجربة.. على أنه مات صغيراً، ومن حكمه:
٭ ما كُلُّ ما فوقَ البرية كافياً
فإذا قنعٌت فكُلُّ شيء كافي
٭ إذا ما برد القلب
فما تسخنه النار
٭ أبذلُ الحقَّ للخصوم إذا ما
عجزتْ عنه قدرة الحُكَّام
٭ لقد قَلَّ من الناس مجملاً
وأخشى قريباً أنْ يقلَّ المجاملُ
٭ وأعظم أعداء الرجال ثقاتها
وأهونُ من عاديته مَنْ تُحاربُ
٭ لعمركَ ما الأبصار تنفع أهلها
إذا لم تكُنْ للمبصرين بصائر
٭ إذا أوجعتني من أعادي شيمةٌ
لقيت منَ الأحباب أدهى وأوجعا
٭ ما العُمرُ ما طالت به الدهور
العُمْرُ ما تمَّ به السرور
على أنه وَصَفَ نفسه واختصر أهدافه ودلَّ
على مفتاح شخصيته ببيت واحد:
مَنْ كانَ مثلي لمَ يَبتْ
إلا أسيراً أو أميراً
ودلَّ على فروسيته وشاعريته معاً ببيت واحد:
سيفقدني قومي إذا جَدَّ جدُّهمْ
وفي الليلة الظلماء يُفتَقَدُ البدرُ!
وقد أسر الروم أبا فراس حين كان أميراً على منبج لسيف الدولة.. وهي قريبة من الروم.. وكان قد خرج في شوال سنة 351ه مع رجال وغلمان له، يريد الصيد فهاجمته حملة من الروم وأصابوه بسهم في فخذه ثم أسروه بعد أن قاتل ببسالة، وكانوا يريدونه بالذات، ويريدون أسره ليفتدوا به أخاً لبطريق من بطارقتهم، كان أسيراً لدى سيف الدولة أمير حلب والشام، ولكن سيف الدولة أبى الفداء، وزعم أنه لابد من خروج جميع أسرى المسلمين مقابل هذا الأسير، ولم يعرض خروج أسرى الروم كلهم، وهم أكثر من أسرى المسلمين لدى الروم، مما يدل على رغبته في بقاء أبي فراس أسيراً، خوفاً على إمارته منه، فرغم أن أبا فراس كان مطيعاً له، إلا انه كان ذا طموح واعتداد شديد بنفسه، يقول لسيف الدولة وهو أميره:
بنا وبكم يا سيف دولة هاشم
يطول بنو أعمامنا ويُفَاخر!
فيقدم نفسه على أميره!
وقد مكث أبو فراس في سجن الروم أربع سنين، بينما مكث راكان بن حثلين في سجن الأتراك سبع سنوات..
وتروي بعض الكتب أن أبا فراس أسرَ مرتين، وكانت الاولى قصيرة الأمد، وتزعم أن أبا فراس خلص نفسه بما يشبه الأسطورة، فقد سجن في مغارة الكحل وهي قلعة ببلاد الروم يجري نهر الفرات بجانبها فأخذ فرساً في القلعة وقفز به من أعلى الحصن إلى النهر، هذا ما أورده ابن خلكان ودائرة المعارف الإسلامية 1/,387.
ونعتقد أنه أسرَ مرة واحدة ونقل إلى (خَرْشَنَة) ثم القسطنطينية فلبث أسيراً أربع سنوات، حتى فداه ابن عمه بعد جهد وإلحاح، ويدل على هذا شعر أبي فراس ورواية الثعالبي في يتيمة الدهر 1/,75. فلو أسر قبل ذلك.. وخلَّص نفسه بتلك الطريقة الأسطورية لذكر هذا في شعره وفخر به فخراً شديداً، ولذكره الثعالبي أيضاً فقد كان شديد الاعجاب ببني حمدان عامة.. وأبي فراس خاصة..
وأبو فراس من الشعراء المجيدين الكبار، ولكن معاصرته للمتنبي كسفت نجوم شعره عند تلك الشمس..
ومن أعذب شعره.. وأرقه.. وأكثره إنسانية.. شعره وهو أسير (روميات أبي فراس) وخاصة ما وجهه لأمه.. وفي بعضه يتجلى الضعف البشري كأوضح ما يكون.. حتى عند أشجع الفرسان.. فالسجن الطويل، والألم لتنكر ابن عمه، آذيا نفسه كثيراً..
٭ ٭ ٭
أما الفارس الثاني والذي نقارنه بأبي فراس الحمداني لجوامع الشعر والفروسية والأسر والشعر وامتزاج تاريخهما بالأساطير فهو راكان بن حثلين شيخ قبيلة العجمان 1235 - 1310) تقريباً.. وقد عاش في فترة مضطربة من حياة جزيرة العرب، كانت القبائل فيها كثيراً ما تحترب، وتغير على بعضها، وكانت قبيلته (العجمان من يام) مشهورة بالشجاعة.
ومع ذلك ظلت قبيلة العجمان في حل وترحال ومشاكل لا تنتهي مع القبائل الأخرى حول موارد الماء ومرابع الكلأ، في تاريخ عجيب من الغزو والتحارب فهم في لظى الصيف يقربون من المدن، وخاصة الأحساء، طلباً للماء والتمر والظل، ولم تكن قبيلة العجمان وحدها تواجه ذلك الواقع القلق.. المأساوي.. بل قبائل الجزيرة كلها على اختلاف في الحظ والنصيب حسب المنعة والقوة، غير أن فروسية راكان ساعدت قبيلته على أن تستقل بذاتها فقد كان ذا شجاعة - بشكل عام - كان يكشر بأنيابه دائماً بين قبائل جزيرة العرب حتى أذن الله - عز وجل - بانجلاء الغمة وتوحُّد الأمة على يدي فارس الفرسان وعبقري الأمة العربية والإسلامية الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود، فوحّد الجزيرة العربية تحت راية التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله) بعد جهاد مخلص عظيم وطويل، فبدَّل الله به خوفهم أمناً، وفرقتهم وحدة، وفقرهم غنى، وضعفهم قوة، وأصبحوا تحت لوائه إخوة متحابين، وقد أجلُّوه وأحبوه وانضووا تحت طاعته فنشر - طيب الله ثراه - الأمن والاستقرار في المملكة كلها انتشار الشمس في الأرض، وحقق أعظم وحدة عربية منذ قرون سحيقة، وكان انجازه الرائع فكراً وكسباً لكل العرب والمسلمين وللعالم الذي كسب دولة كبيرة متحضرة ساهمت في الحضارة العالمية وانسجمت مع المجتمع الدولي..
ويقول علامة الجزيرة حمد الجاسر رْحمه الله عن العجمان: «واحدهم عَجمْي وهي قبيلة كانت بلادها قديماً جنوب الجزيرة، في منطقة نجران، وهي من قبيلة «يام» التي لا تزال مستقرة هناك على أشهر الاقوال.. وانتقالها من بلادها القديمة إلى وسط الجزيرة وشرقها في آخر القرن الثاني الهجري، وكانت قبل ذلك تقوم بغارات في وسط الجزيرة.
انتهى باختصار..»
وراكان بن حثلين توفي سنة 1310 أو قبلها بقليل وعمره فوق السبعين كما يقول الرواة، وهو - مثل أبي فراس - أمير في قومه.. وشاعر.. ولحياته وهج وشعبية كبيرة.. وكان أبوه فلاح بن حثلين أميراً على العجمان، ثم خلفه أخوه حزام فكان راكان مخلصاً لعمه بعمق - بخلاف أبي فراس - وكان يشهد معه المعارك ويفتك بالأعداء يقول:
تسعين رمح كسرن في العدامه
عشرين منهن بين راكان وحزام..
وبعد وفاة عمه أصبح أمير العجمان، وقد كتب عنه كثيرون، وأعجب به خلق، وخلاصة حياته أوردها الأستاذ عبدالله الحاتم فقال:
«راكان بن حثلين زعيم قبيلة العجمان لا يحتاج إلى تعريف فالمعروف لا يُعَرَّف.. فقد كان راكان فارساً صنديداً وشجاعاً لا مثيل له وشاعراً مغلّقاً.. وراكان هو الرجل الوحيد الذي في وقته أقضَّ مضاجع الأتراك وبلبل أفكارهم! ولم يهدأ لهم بال حتى قبضوا عليه وسفروه مخفوراً إلى بلادهم وسجنوه هناك ثم اطلق سراحه لقصة مشهورة سنوردها..» خيار ما يلتقط من الشعر النبط 2/225 ثم يقول:
«الشاعرية والفروسية يتباريان في راكان بن حثلين زعيم قبيلة العجمان، فإذا جرى ذكر شعره وأعماله لا يلبث الشخص أن يستشهد بأقواله على أعماله وهذا شيء من الكمال إذ يندر أن يحدث مثل هذا التطابق، ولكن هذه الأقوال المقرونة بالأفعال تختلف وجسمه النحيف وهيكله الضئيل!، ألهب نفوس قومه حماسة وخلق من كل فرد منهم راكان ورفع رأسهم عالياً فلا يستطيع أحد أن يمسهم بأذى أو يجرؤ عدو لهم أن يطأ أرضاً لهم.. هم فيها.. فمدت معظم القبائل أيديها لمصافحة راكان..
أقض مضاجع الاتراك وأقلق راحتهم ولم يهدأ لهم بال حتى قبضوا عليه لخيانة بعض أعدائه ونقلوه إلى بلادهم ووضعوه في زنزانة مغلقة.. ثم دارت رحى معركة رهيبة بين الأتراك والمسقوف، وكانت المبارزة سائدة، فبرز من المسقوف عبد أسود كالعملاق الهائل فكل من برز له.. جندله في الحال حتى أعيا الاتراك أمره..
وسمع راكان وهو في سجنه قصة هذا العملاق المؤذي فطلب من القيادة مبارزته ولكنها لم تأبه لعدم التكافؤ بين راكان (النحيل) المعلول وبين هذا العملاق المرعب!
أما راكان فظل يكرر طلبه ويلح حتى وافقت القيادة وأخرجته فطلب مُهْرة يدربها على طريقته الخاصة وأجيب.. وطلب شلفا مردودة الأطراف فأعطى فمضت أيام وراكان منهمك في تدريب مهرته، ثم نزل الميدان فخرج له العبد الأسود وعيناه يتطاير منهما الشرر فما هي إلا جولة أو جولتان وراكان يزمجر كالأسد حتى انقض على مبارزه كالعقاب الكاسر فاختطفه من سرجه واقتاده أسيراً فتعجب الناس وصدحت الموسيقى، ثم أفرجت عنه الحكومة وطلبت إليه أن يتمنى عليها فطلب.. ولكن ماذا طلب؟.. (الصمان والدهناء) والصمان أراض صخرية جرداء، والدهناء خَطٌ عظيم من الرمال في شبه جزيرة العرب) السابق 1/332 باختصار.
قلت: حياة راكان كأبي فراس.. مثيرة.. واختلطت فيها الأساطير بالحقيقة.. ولكن الثابت عن الرجلين أنهما شجاعان جداً، وشاعران مبدعان (كلُّ في مجاله وقياساً بزمانه) وكلاهما أسر فعلاً.. وهناك وجوه شبه كبيرة بين هذين الرجلين رغم أن بينهما ألف عام!.
(يتبع)
نقلا عن الرياض
ممتع جدا..بارك الله فيك
المشكلة إذا كان الفطام من حليب مصنوع في سويسرا
من الرائع أن نجد من كتابنا من لا يزال يقيم للموروث التاريخي والشعري وزناً وقيمة ويسرده باسلوب جميل لا تكلف فيه ولا لجلج . ويؤرقني في الجيل ركاكة لغتهم وبعدهم أصول دينهم وعدم ثقتهم بعراقة ماضيهم . فغالبهم جيل بلا هوية حقيقية . حبذا مثل الدكتور الجعيثين ونظراءه ان يكونون صيواناً جاذباً له صداه ولعل ذلك ذخراً في الأخرة ومجداً دنيوياًيلحقهم خيره إلى ان تقوم الساعة .