جنون الـ«NFTs»

06/09/2021 0
د. عبدالله الردادي

في مارس (آذار) الماضي، قامت دار «كريستر» للفنون، وهي دار للمزايدات يزيد عمرها على 220 سنة ببيع لوحة فنية رقمية للفنان مايك وينكلمان المعروف بـ«بيبل» بسعر زاد على 69 مليون دولار، وهو أعلى سعر على الإطلاق للوحة رقمية. هذه اللوحة ليست إلا صورة رقمية يمكن حفظها من محركات البحث، ويمكن لأي شخص أخذ نسخة منها واستخدامها في مواقع التواصل أو غيرها، إلا أن ما قامت «كريستر» ببيعه في الواقع، هو رمز مميز يعرف بـ«Non-Fungible Token» يمكّن المشتري من إثبات ملكيته لهذه اللوحة الرقمية، فما هي «Non-Fungible Tokens» التي سمحت ببيع ملكيات المنتجات الرقمية؟

تعرّب «Non-Fungible Tokens» أو «NFTs» بالرموز غير القابلة للاستبدال، أو الرموز غير المُثلى، وهي رموز مميزة مشفرة باستخدام تقنية «البلوك تشين». واستخدمت هذه الرموز مؤخراً لربط وتمييز الفنون الرقمية مثل الصور، أو مقاطع الفيديو أو الموسيقى أو غيرها، ويمكن النظر إليها بصفتها وثيقة ملكيّة لهذه الفنون، ويمكن بموجبها بيع وشراء المنتجات الرقمية وإثبات ملكيتها للأفراد. ويتم ربط المنتجات الرقمية برمز مميز منفرد، يستحيل تزييفه نظراً لاستخدامه نظام التشفير الذي تتيحه تقنية «البلوك تشين»، تماماً كما هي الحال للعملات الرقمية مثل بتكوين وإيثريوم وغيرهما. ويمكن بذلك اعتبار «NTFs» كنوع من أنواع الأصول الرقمية التي تستخدم لإثبات ملكية «المقتنيات الرقمية»، إذا صح التعبير.

وعلى الرغم من أن هذه الرموز (وما تمثله من مقتنيات رقمية) تتشابه مع العملات المشفرة في كونها أصولاً رقمية تعتمد على تقنيات «البلوك تشين»، فإنها تختلف عن العملات المشفرة في عدد من النقاط، وأول هذه الاختلافات هو تميزها، ففيما يوجد آلاف العملات من البتكوين ويمكن استبدال أي عملة بتكوين بأخرى، فلا يوجد لكل «NTFs» إلا رمز واحد فقط يمثل منتجاً رقمياً، وهو ما يزيد قابلية زيادة أسعارها بسبب هذا التفرّد. كما أن هذه الرموز ليست قابله للتجزئة، كما هي الحال مع العملات الرقمية التي يمكن شراء نصفها أو ربعها. وبينما تبدو «NTFs» منطقية من ناحية إيجادها حلاً لملكية المنتجات الرقمية كالصور والأغاني وغيرها، بعد عقود من عدم قدرة إثبات الملكية، إلا أن ما حدث في أسواقها هو أمر أشبه بالجنون، فما الذي يجعل شخصاً يدفع ملايين الدولارات لقاء صورة رقمية؟ وعلى الرغم من أن أسعار الفنون المادية كاللوحات الزيتية والتحف وغيرها تزيد على أسعار «NTFs»، فإنها قطع مادية لا يوجد لها بديل آخر، بينما يمكن نسخ الفنون الرقمية بكل بساطة إلى عدد غير منتهٍ من النسخ. قد يكون جواب ذلك أن الرغبة البشرية بالتملك في كلا النوعين من الفنون هي الرغبة ذاتها، فكثير من مشتري الفنون المادية يرغبون بالمفاخرة بامتلاكهم قطعاً فنياً، وتبدو الحال كذلك لكثير من ملّاك الفنون الرقمية.

وتمثل هذا الجنون في كثير من منصات بيع «NTFs»، فقام العديد من الجهات المعتبرة مثل شبكة «CNN» للأخبار واتحاد كرة السلة الأميركية وغيرهما ببيع كثير منها وجني الملايين منها. كما قامت شركة «فيزا» بشراء صورة بلغ سعرها 150 ألف دولار، وأصدرت الشركة بياناً توضح فيه أنها تريد أن تكون جزءاً من هذه السوق الواعدة. كما شارك كثير من المشاهير في الشراء والتسويق لهذه الرموز، ما تسبب في ارتفاع أسعارها بشكل جنوني، في اندفاع يمكن وصفه بالهوس.

وفي تقرير نشر في مارس الماضي (أي قبل 6 أشهر)، وصفت إحدى وسائل الإعلام الاندفاع نحو هذه الرموز بالجنون، بعد أن تضاعفت التداولات فيه لعام 2020 لتصل إلى 250 مليون دولار! ولكن هذا الرقم لا يعد جنوناً إذا قورن بالرقم في الشهر الماضي، ففي أغسطس (آب)، بلغت التداولات في منصة «أوبن سي» أكثر من 3.4 مليار دولار، أكثر بعشرة أضعاف من الشهر الذي سبقه، وقد يصبح هذا الرقم أضحوكة في المستقبل إذا قورن بالأسعار التي يمكن الوصول إليها.

ويرى المشككون في هذه السوق أن ما وصلت إليه الأسعار هو نتيجة امتلاك عدد من الناس لوقت ومال وفيرين، لا سيما عند النظر فيما أحدثته الجائحة من وقت فراغ طويل، وتأثيرها كذلك على ارتفاع الادخار لدى الكثيرين. كما يرى أحد المحللين أن زيادة السيولة بسبب الدعم الحكومي العالمي للجائحة كانت لها أثر في زيادة السيولة لدى الأفراد دون وجود فرص استثمار حقيقية، إضافة إلى انخفاض أسعار الفائدة الذي سهل الحصول على قروض.

وإن ما يحدث الآن في «NTFs» هو هوس عالمي، يشابه كثيراً ما حدث في 2017 عند موجات الطرح الأولي للعملات الرقمية الذي انتهى بخسارة الكثير لأموالهم في عملات لا تستند إلى شيء. إلا أن هذه الرموز قد تؤثر كثيراً على المقتنيات الرقمية، وقد تفتح أسواقاً جديدة في العالم الرقمي، لا سيما في أسواق الألعاب والفنون. وبينما قد تنفجر فقاعة الأسعار الحالية عند انطفاء حماسة الناس لها، إلا أن فائدتها قد تستمر في حفظ الملكيات الرقمية التي طالما ضاعت في العالم الرقمي.

 

نقلا عن الشرق الأوسط