بينما كانت أسعار البترول العالمية مستقرة فوق 70 دولاراً في عام 2010، ومليارات الدولارات تنهمر على الخزينة السعودية، ملقية بظلالها على أسعار تعريفة الكهرباء لتباع بأقل من أسعار التكلفة، كان هناك رجل في وزارة الطاقة السعودية التي كانت تسمى البترول والثروة المعدنية آنذاك، يعمل دون كلل على مشروع اسمه (كفاءة الطاقة) لأنه يؤمن أن الثروات الوطنية بحاجة للحفظ والترشيد وليس للإسراف والهدر.
كان كل شيء تقريباً يعمل ضد الأمير عبد العزيز بن سلمان الذي كان يشغل منصب مساعد وزير البترول والثروة المعدنية لشؤون البترول (2004- 2015)... الطفرة المالية، والنهم الاستهلاكي، وانخفاض أسعار الكهرباء، وثورة البناء التاريخية، ورغم ذلك كافح لتأسيس المركز السعودي لكفاءة الطاقة في 2011، في الوقت الذي كان يدور همس حوله بأنه من قبيل الرفاهية، إذا لا يمكن إقناع الناس بالترشيد بينما تباع الطاقة بأسعار رخيصة. في الحقيقة كان ذلك كصرخة في وادٍ تبحث عمن يجاوبها.
ولتقريب الصورة؛ فإن حرق كميات كبيرة من الوقود الأحفوري (البترول) للاستهلاك المحلي يؤدي إلى ضياع عائدات حكومية كبيرة. وبحسب دراسة نشرت هذا الأسبوع من KAPSARC فإنه بين عامي 2010 و2018 خصصت المملكة حوالي 450 مليار ريال (120 مليار دولار) لدعم الكهرباء فقط.
ومع تراجع أسعار البترول منذ 2014 ووصولها إلى ما دون العشرين دولاراً، وارتفاع تكاليف تشغيل الحكومة، فإن تحمل الخزينة العامة مزيداً من الدعم يشبه عملية انتحار مالية، تهدد بمزيد من العجز في حساب الميزانية، وتؤثر على بنود أكثر أهمية للسكان تتعلق بالصحة والتعليم والأمن والإنفاق على مشاريع البنية التحتية، فضلاً عن صعوبة ملاحقة نمو الطلب على الكهرباء الذي يحتاج إلى مئات المليارات لبناء محطات جديدة.
قبل نهاية 2020 ركّز الأمير عبد العزيز بن سلمان - تسلم في سبتمبر 2019 دفة قيادة وزارة الطاقة - جهده لإعادة هيكلة قطاع الكهرباء برمته، وحرر الشركة الوحيدة المملوكة للحكومة من قيود ديون تتجاوز 170 مليار ريال عبارة عن قيمة وقود لصالح شركة أرامكو لم يتم سدادها منذ سنوات، وحوّل هذه الديون إلى ورقة مالية تطرح في سوق الدين، رافعاً بذلك تصنيف الشركة خلال فترة وجيزة، وفاتحاً الطريق أمامها للعمل بشكل تجاري. وقد حظيت هذه الخطوة بدعم ومتابعة ولي العهد، وتوجت بصدور موافقة الملك سلمان.
بعد مرور عقد على تأسيسه لمركز كفاءة الطاقة، أعاد الرجل كرّته، لكنها هذه المرة على الصعيد العالمي، فقد أقنع نظراءه وزراء الطاقة للموافقة على مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، وحظي ذلك بموافقة قادة مجموعة العشرين في قمتهم الافتراضية في الرياض التي عقدت في نوفمبر الماضي، وهو نموذج اقتصادي يرتكز على أربعة عناصر رئيسة، تعني التقليل من الانبعاثات، وإعادة استخدامها، وإعادة تدويرها، وأخيراً إزالة المتبقي من الانبعاثات باستخدام كافة الإمكانات والابتكارات الحديثة.
التحول الكبير، حدث على صعيد الطاقة المتجددة، حيث كشفت السعودية عن خطة يكون بموجبها نصف إنتاج الكهرباء المنتج في المملكة بحلول 2030 من هذا النوع من الطاقة، وسميت مبادرة الملك سلمان للطاقة المتجددة.
وبينما دشن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان مشروعاً للطاقة الشمسية في سكاكا بطاقة 300 ميغاوات، ورعى إبرام عقود بناء وتنفيذ 7 مشاريع جديدة للطاقة الشمسية تصل طاقتها نحو 2900 ميغاوات، يقترب مشروع آخر في دومة الجندل بطاقة 400 ميغاوات من الدخول في الخدمة مرتكزاً على الطاقة المستمدة من الرياح.
وإذا نظرنا للصورة بشكل أشمل، فإن المملكة تنتج في فصل الصيف 60 ألف ميغاوات. وإذا أخذنا بالاعتبار النمو السنوي المعتاد فإنها بحلول 2030 ربما تحتاج بين 80 و90 ألف ميغاوات، وذلك يعني أن بين 40 - 50 ألف ميغاوات يجب أن تكون من الطاقة المتجددة. وبناء على جهوزية 700 ميغاوات والشروع في تنفيذ 3600 ميغاوات، فذلك يعني أن البلاد في طريقها لإنجاز 10 % في أول عامين من الخطة التي أطلقها ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. بالإضافة إلى أنها ستزيح أكثر من مليون برميل مكافئ يحرق حالياً لتوليد الكهرباء في البلاد. وهذا يمكن أن يكون تفسيراً لإعلان وزير الطاقة توجه البلاد لإيجاد مزيج طاقة وطني قال عنه: «سيكون: الأقل كلفة، والأعلى كفاءة، والأكثر مواءمة للبيئة».
وهكذا تبدو عملية إصلاح أسعار الطاقة في 2018 وما رافقها من تعويضات مالية عبر حساب المواطن، مع برامج كفاءة الطاقة، وتنويع مزيج الطاقة الوطني، وإطلاق مبادرة الاقتصاد الدائري للكربون، وبرامج لحماية البيئة وتخفيض الانبعاثات، تظهر الحصافة السعودية في إطلاق رؤية المملكة 2030 التي احتوت كل هذه المبادرات.
لذلك فإن الصرخة التي أطلقها الأمير عبد العزيز بن سلمان في 2011 لم تذهب سدى، ووجدت أذناً صاغية بنهاية العقد، لكن المشوار لايزال طويلاً، ومحاطاً بأشواك التحديات محلياً ودولياً.
نقلا عن الرياض