نسيم الصباح يُنعش الروح وعملهُ يساوي وزنه ذهباً

24/05/2021 3
عبدالله الجعيثن

درجت الفنادق الراقية على جعل الإفطار بالمجان، وأكثرها يشترط أن يأتي النزيل لصالة الإفطار العامة ولا يطلبه في الغرفة.. 

ومرّ عليّ في أسفاري الأولى عدم الاهتمام بهذا الإفطار المجاني، وتفضيل لذيذ النوم عليه، حتى بعد الاستيقاظ أظل في السرير من ربع إلى نصف ساعة في حالة استرخاء وهدوء.. 

ثم خطر لي ذات مرة أن أستيقظ مبكراً - على غير العادة!- وأشارك في الإفطار الجماعي والمجاني مع نزلاء الفندق الكبير.. 

كان الدرب إلى صالة الإفطار تُحفّة من الحدائق والزهور، في مبنى منفصل عن الفندق، فهبّ علي مع البكور نسيم الصباح العليل، وفاحت روائح الزهور، ورأيت المسطحات الخضراء تخضلّ بالماء، تداعبها نوافير الرشاشات، وتغازلها شمس الصباح، أحسست بنشاط لم أعهده، وابتهاج وإقبال على الحياة!

هذه التجربة أكدت لي جمال إشراقة الصباح، وتذكرت قول الرسول صلى الله عليه وسلم: (بُورِك لأمتي في بُكُورها).

 وكان يومي كله -بعد استيقاظي مبكراً ومروري بالأشجار والزهور وتناولي الإفطار مع النزلاء في البوفية المفتوح- يوماً سعيداً بهيجاً مليئاً بالحيوية والتفاؤل والنشاط والانشراح.. 

الشاهد هنا لايحتاج إلى دليل، فالنوم العميق في الليل، والاستيقاظ مع تغريد الطيور وطلوع الشمس وتفتُّح الزهور، ومرور نسيم الصباح على الوجوه، عوامل إيجابية تفتح أمامك أبواب النشاط والانشراح في يومك كله، وتجعلك قادراً على الاحتفال بالحياة والإقبال على العمل والحصول على الفرص الطيّبة، فإن الفرص تستيقظ باكراً.. 

وحين كنت موظفاً كثيراً ما سمعت من إذاعة الرياض، وأنا في السيارة، تلك الأغنية الجميلة لسعد إبراهيم رحمه الله: 

أرسل سلامي .. مع نسيم الصباحْ

للصاحب اللي صار وصله صعيب

من قلبي اللي .. صار كلَّـه جـراح

ما عاد ينفع فيه وصـف الطبيـب

وين الليالي .. ويـن هـاك المـزاح

من قبـل ما حطَّـوا علينـا رقيـب

حسبي على اللي.. ماسعوا بالصلاح

مايرحمون اللـي صوابـه عطيـب

لا تسألوني .. سِرّهُم ما يباح

في وسط عيني صورته ما تغيـب

 وإذا كان الإمام الشافعي يقول -كما نُسب له-: 

بِقَدْرِ الكدِّ تُكتسبُ المعالي

ومن طلب العُلا سهر الليالي

ومن رامَ العلا من غير كدٍّ

أضاع العُمْرَ في طلب المُحالِ

تروم  العزّ  ثم تنامُ  ليلاً

يغوصُ البحر من طلب اللآلي

فإن هذا لايعني تفويت القيام باكراً والتفريط بجمال أول الصباح بالذات وهو ما نسميه في مأثورنا (الصّفْره) وإنما يعني الجدّ في العمل والكدّ في طلب العلم والرزق، حتى لو اظطررت للسهر ليلاً لإكمال العمل وإتمام المطلوب، فإن النهوض باكراً فيه متعة وسعادة ونشاط،ويمكن تعويض ذلك السهر العملي بالقيلولة بعد الظهر حين تشتد الشمس ويقسو الحرّ، وفي الأثر (قِيلوا فإنّ الشياطين لا تقيل) قيل إنه حديث شريف، وقيل إنه من حكم الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه، والذين جرّبوا (القيلولة الخفيفة) شعروا بأنها تمنحهم المزيد من النشاط والإقبال على الإنجاز والاحتفال بالحياة، حتى إنّ كثيراً من علماء الغرب أصبحوا يحبِّذون القيلولة الخفيفة.. 

وتراثنا الأدبي ومأثورنا الشعبي يحبذ الاستقاظ مع الطيور والاستماع بطلعة الصباح، ويؤكد أن ذلك أفضل للإنسان وأسهل وسيلة لتحقيق النجاح والإتقان واغتنام الفرص، فعمل الصباح يساوي وزنه ذهباً.. كما ينهى عن نوم الصباح (الصفرة) ويرى أنه مدعاة للكسل والفشل وضياع الفُرص، فوق أنه يدل على ضعف الهمّة وحُبّ الدعة والراحة وتفضيل الإهمال والكسل على الجد والحزم، وكل هذه الخصال تقود إلى الفشل، يقولون (الصفرة تورث الحسرة). 

و(الصفرة) التي نستخدمها في مأثورنا الشعبي، فصيحة إذا ضُمّت الصاد، وتعني اللون الأصفر وهو يدل على الشحوب، قال في لسان العرب (صُفرة الوجه) شحوبه، فالذي يطيل النوم في الصباح قد أطال السهر في الليل غالباً، مما ينهك صحته ويصيب وجهه بالشحوب، بالإضافة للمعنى المجازي الذي يدل على أن المكثر من نوم الصباح شاحب العطاء والوجود.

 

 

 

نقلا عن الرياض