المرأة البدوية كانت تعمل عن عشرة رجال!

04/01/2021 1
عبدالله الجعيثن

حين كانت حياة البادية مزدهرة وسائدة في جزيرة العرب قبل خمسين عاماً أو أكثر، كانت بيوت الشَّعَر تتناثر في الصحراء، تناثر النجوم في السماء، وكانت الإبل بألوانها المختلفة تجوس البراري والقفار، بحثاً عن الماءِ والكلأ، أما قطعان الأغنام فتبدو للرآي من بعيد وكأنها قطع سوداء متحركة على رقعة شهباء، يتخللها بعض العشب وقليل من الأشجار، وموارد ضئيلة من الماء، ويتبعها الرعاة من رجالٍ ونساء، إذ كانت الأعرابيات يمارسن العمل.. بل والعمل الشاق تحت لهيب الشمس صيفاً، وزمهرير البرد شتاء، كانت المرأة البدوية تقوم بأعمال كثيرة، شاقة ومتواصلة، فهي ترعى الغنم، وتحلبها، وتحلب الإبل، وتجلب الماء إلى بيت الشعر من مكانٍ بعيد، وتطبخ الطعام، وتصنع من اللبن الإقط، وهو الجبن البدوي المجفف جداً لحدّ أنه يابس، وكنت ترى على كل قطعة من هذا الجبن البدوي (الإقط) أصابع البدوية التي صنعته وهو طري، وقد حفرت فيه وبقيت بعد أن جف، شاهدة على مشقة العمل الذي قامت به في كل قطعة، ولم يكن هذا عملها فقط، كانت أيضاً تجز الصوف من ظهور الإبل والأغنام، وتصنع من ذلك الصوف ملابس وعبايات، تغزلها بيدها، وبوسائل بدائية، متعبة، لم تكن تغزل ملابس وعبايات أسرتها فقط، بل كانت تغزل بيت الشَّعر كاملاً، حيث يذيقها الأمرين، ويُتْعبُها أشد التعب، ويستغرق منها الوقت الممل الطويل، ويصيب يديها بالكلل، بل وبالجروح..

وطبعاً كانت تحمل - وتلد.. وتُرضع.. لا يوجد مستشفى.. ولا مولِّدات.. ولا الحليب المجفف..

وهي، على هذا، مسؤولة عن إسعاد زوجها، والاهتمام به، وإعطائه كامل حقها، مهما أصابها التعب، أو ضربها العمل المتواصل الشاق بالإنهاك والإحباط.. لا مكان في الصحراء للتعب.. ولا اعتراف بشيء اسمه إنهاك.. أو إحباط..

كانت المرأة البدوية بمثابة مصنع كامل: تصنع الأغذية والملابس والرجال.. وتجلب المياه وترعى القطيع وتحلب الإبل والأغنام وتستخرج من حليبها أشكالاً من الغذاء ما بين سمن، وزبدة، ولبن، وإقط، فهي تخض صميلها، باستمرار، وربما تخض الصميل وفي حجرها وليدها يرضع، وتستخرج من الصميل - بعد الخضِّ المتواصل الشديد، تلك الأصناف من الأغذية القابلة للتسويق لدى الحضر، حيث يجلب البدو على الحواضر والقرى السمن والإقط والجلود والصوف وكله من عمل السيدة البدوية التي هي بمثابة الجندي المجهول..

وكان أكثر الأعراب، من قديم الزمان، ومن العصر الجاهلي، يلقون أعباء العمل الشاق على النساء.. الأعرابيات.. بينما يكتفي الأعرابي بحمس القهوة، وحماية القبيلة والأسرة، وتبادل السَّمر، وترديد الشعر..

❊ وعلى سبيل المثال فإن الشاعر الجاهلي القديم، وكان بدوياً في الصميم، يقول مخاطباً زوجته قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام:

«يا ربَّة البيتِ قومي غيَر صاغرةٍ

شُدَّي إليك رِحَالَ القومِ والقِرَبا

في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ

لا يُبْصرُ الكلبُ من ظلمائِها الطّنُبا

لا ينبحُ الكلبُ فيها غيرَ واحدةٍ

حتى يَلُفَّ على خيشومِهِ الذَّنَبا!»

قائل هذه الأبيات هو الشاعر الجاهلي «مُرّة» يخاطب زوجته في نصف الليل، وأيُّ ليل؟ ليلٌ من جمادى حيث يتجمَّد الماء من شدة البرد..

وها هو ذا الشاعر يأمرها أن تشد رِحَال القوم.. أي تهد بيت الشعر، وتُحَمِّله هو وما في داخله على ظهور الإبل!!

بل وتملأ القرب في هذه الليلة الشتوية المظلمة والقارسة البرد، حتى إن الكلب لا يرى طنب الخيمة مع قوة نظره ومعرفته بتفاصيل المكان الصغيرة، ولكنّ خيمة الليل السوداء - حيث لا قمر.. ولا نجوم - تجعل الكلب لا يُبْصرُ طنب الخيمة من شدة سواد تلك الليلة الخرمسية، وفوق هذا لا يستطيع أن ينبح من شدة البرد، فمع أن الكلب وفي، وأن الشد والرحيل يحتاج إلى نباحه كحارسٍ أمين خاصة أن الليل أسود وما قدم من لص سيكون أسود لا يرى (الليل أسود واللص أسود) إلا أن الكلب لا يكاد ينبح مرة واحدة أداءً للواجب حتى يخترق هواء الشمال المثلج لسانه وحلقه وبلعومه، فيسكت الكلب ويخرس نهائياً ويتخلى عن واجبه المفروض لأنه إن فتح فمه يموت، لهذا يلف ذنبه على خشمه وفمه بحثاً عن بعض الدفء وليذهب أسياده في خبر كان، يا روح ما بعدك روح، والكلب إن نبح أشرف على الموت..

في هذه الظروف القاسية جداً في ليلة مظلمة باردة عاتية يأمر الأعرابي امرأته أن تهد البيت وتشده وتربطه وتحمله، هو وعفشه، على ظهور المطايا، وأن تملأ القرب بالماء والماء يكاد يتجمد من برد هذه الليلة الليلاء..

فأي عملٍ قاسٍ شاق كلفها إياه؟!

ومع ذلك يقول بعض النقاد إن ذلك الشاعر كان رقيقاً مع زوجته حين قال:

«قومي غيرَ صاغرةٍ..»

فقد أكرمها ودللها بهذه العبارة!!

أيَّ إكرام وأيُّ تدليل؟! تُرَى لو قال لها اقذفي بنفسك في النار يا حبيبتي غير صاغرة!! يشعف آخرُ العبارة لأول العبارة؟!.. كلا بالطبع.. وما كلفها به من عمل شاق في ليل أظلم بارد يقارب قذفها في النار من حيث الضرر فإنها ستصاب في الغالب بنزلة شعبية قاتلة لشدة البرد والريح وملامسة الماء وإصابته لملابسها وشِدّة إنهاكها بشد الرحال..!

خلاصة القول إن المرأة البدوية كانت تقوم بعمل عشرة رجال من رجال هذا الزمان، فهي تعمل ليل نهار، وفي أسوأ الظروف، وفي كل مكان، في بيتها (بيت الشعر) وفي صحرائها تطارد الأغنام والإبل، وحل بيتها تصنع الجبن وتستخرج السمن، بل هي أصلاً من غزل هذا البيت خيطاً خيطاً، وهي من تقوم بشؤون الأسرة الصغير منهم والكبير، وتستقبل الضيوف، وتذبح الشاة أو تنحر البعير، وتسلخ، وتطبخ، وتُقَدِّم الطعام للضيوف رمز الكرم.. فهي جديرة حقاً بالاحترام.. ومما هو جدير بالذكر أنّ الأعرابيات - مع كل ذلك العمل المتواصل الشاق - يحببن حياة البادية بجنون، وتكره الواحدة منهن أن تعيش في المدينة ولو كانت في قصر منيف، وقد ورد في هذا قصص وأشعار، منها قصة (ميسون بنت بحدل) البدوية التي تزوجها الخليفة معاوية ونقلها من الصحراء إلى قصر منيف فكرهت القصر وحنت إلى الصحراء وقالت قصيدتها المشهورة التي مطلعها:

«لبَيتٌ تخفق الأرواح فيه

أحَبُّ إليَّ من قصرٍ منيف»

تقصد بيت الشعر الذي تتجاوب فيه الرياح!

وبدوية أخرى تقول:

«حلفتْ لو اعطى الحسا مع خراجه:

عليّ بيبان الحضر ما يصكُّون»

وإنما يعود ذلك للعادة والنشأة وحب الوطن..

 

نقلا عن الرياض