فلـربَّـما مَـــزَح الصَّـديــق بمَـــزْحَــة كانــت لبـــابِ عَــدَاوةٍ مفتـاحاً
يضحك وقلبه لك تمكّن على الشّين وصيُّور غرمان المحاسب تفلّه
فرقٌ بين ركل دُمية وإنسان، هذا الفرق البدهي لا يدركه بعض الناس من الآباء والرؤساء وأصحاب الثروة الذين يلتف حولهم بعض المنتفعين صابرين على الإهانات التي تنهال عليهم باسم المزح، أو الإضحاك واستعراض براعة الثرثرة في التعليق على الآخرين، الذي يُقابل بالضحكات المشجعة على التمادي.. هؤلاء الذين صبروا على المزح المُهين يستاهلون:
مَنْ يَهُنْ يَسْهُلِ الهَوَانُ عَلَيهِ
ما لجُرْحٍ بمَيّتٍ إيلامُ
كما يقول شاعر العربية الكبير أبو الطيب المتنبي، لكن ما يفعله بعض الآباء والرؤساء مع أولادهم ومرؤوسيهم يختلف، الأولاد لا يردُّون إهانات الآباء أو مزحهم الثقيل احتراماً، والمرؤوسون قد لا يفعلون ذلك خوفاً.. المُفارقة في الأمر أن مُوجّه الإهانة أو المزح الثقيل، أو النقد المُرّ، لا يشعر بفداحة ما يفعل، ولا يحس بألم الآخرين، لأنه لم يجد ردة فعل غاضبة، مُعلنة، فيطعن ويجرح وكأنه في مسرح، حيث تكون أدوار بعض الممثلين تلقّي السخرية والتنقيص وإسقاط الفكاهة عليهم لشدة غبائهم حسب الدور المرسوم.. ولكن بمجرد انتهاء المسرحية يعود الممثلون إلى احترام بعضهم بعضا ولا يجد (الأضحوكة) في نفسه حزازة على زميله الذي مسح به البلاط، فالمسألة تمثيل في تمثيل، وقد يفخر مُتلقِّي السخرية أنه أجاد دوره في تلقي الطعنات ومواصلة الحض على إضحاك المتفرجين.
في الحياة يختلف الأمر جذريا.. الطعن والجرح في اللّحم الحي.. تتألم نفوس الأولاد والمرؤوسين إلى العظم وإن صمتوا، وقد يحقدون، وفي كل الأحوال فإن النقد المر واتخاذ الآخرين للسخرية ضد الدين والعقل وأوضح مبادئ التربية والمروءة، والأب الذي يزعم أنه يفعل هذا بهدف الإصلاح كاذب أو جاهل، طريق الخير لا ينبت فيه الشر.
والمزح الخفيف الظريف الذي فيه حسن النية والدقة في اختيار مواضعه التي تُطرب ولا تغضب، يكون كالملح في الطعام في حدود فتح الشهية وإيناس النفوس ببراءة ومودة، وفي حدود الاحترام واللباقة، لا أن يطول ويستطيل ويجر بعضه بعضاً إلى ردود أفعال ما كانت على البال.. ولكن السيئ فعلاً هو الذي يريد أن يكون من يقع عليه المزح أضحوكة للآخرين، يقصد إهانته زاعماً أنه يمازحه، فهذا يضع الملح على الجرح، ويُبطن الحقد في صيغة المزح، وكأنه في مسرح يطعن ويجرح ويريد من الآخرين أن يرضوا بما يسخر ويُعجبوا وهو يحاول أن يشفي غليله من جليسه الذي يجرحه بمزحه الثقيل في اللحم والعظم، فالمسألة ليست مجرد تمثيل بل هي شرٌّ وبيل كما قال محمود الورا :
تلقَى الفتَى يلقَى أخاه وخِدْنَه
في لحنِ منطقِه بما لا يُغْفَرُ
ويقول: كنت مُمَازِحًا ومُلَاعبًا
هيهاتَ نارُك في الحشا تتسعَّرُ
ألهبتَها وطَفِقتَ تضحكُ لاهيًا
عمَّا به، وفؤادُه يتفطَّرُ
أو ما علمتَ، ومثلُ جهلِك غالبٌ
أنَّ المزَاح هو السُّبابُ الأصغرُ؟
ولشاعر آخر
(مازحْ أخاك إذا أردتَ مزاحًا
وتوقَّ منه في المزَاحِ جماحًا
فلربَّما مَزَح الصَّديق بمَزْحَة
كانت لبابِ عَدَاوةٍ مفتاحًا
وينهي شاعر عاقل عن الإفراط في المزاح لأنه يفقد المازح السّمْت والعقل، ويصل أحياناً إلى جرح الآخرين:
وإيَّاك مِن فرطِ المزَاحِ فإنَّه
جديرٌ بتسفيه الحليمِ المسدَّدِ
وقد يحاول مُتعمِّدُ التجريح تغطية مزاحه الجارح بالضحك ليدعي أن الأمر مجرد مداعبة، كما قال سعد بن حريول :
يضحك وقلبه لك تمكّن على الشّين
وصيُّور غرمان المحاسب تفلّه
(تغليف الجرح بالنصح)
ويدخل في هذا الباب من يريد أن يجرح يتظاهر أنه ينصح، ومن علاماته أن تكون نصائحه فاضحة لعيوب المنصوح، وأن تكون على الملأ وليس سرّاً بينه وبين صاحبه، يقول الخلاوي:
ترى النصايح في البرايا فضايح
كم ناصحٍ اضحى له الناس عايبه
وفي هذا المعنى الحكيم يقول الإمام الشافعي:
تَعَمَّدني بِنُصْحِكَ في انْفِرَادِي
وجنِّبني النصيحة َ في الجماعهْ
فَإِنَّ النُّصْحَ بَيْنَ النَّاسِ نَوْعٌ
من التوبيخِ لا أرضى استماعه
وَإنْ خَالَفْتنِي وَعَصَيْتَ قَوْلِي
فَلاَ تَجْزَعْ إذَا لَمْ تُعْطَ طَاعَه
نقلا عن الرياض
رائع ... من أجمل المقالات
مقال ممتاز من كاتب متميز ...برع في دراسة عيوب المجتمع وملك ناصية اللغة ....ماشاءالله ...معرفة باشعار العرب المتقدمين والمتاخرين ....وحتى بالشعر الشعبي ....ماشاءالله موسوعة معرفية شملت طيف الشعر من ابو الطيب المتنبي إلى راشد الخلاوي وحميدان الشويعر وغيرهم ....يعطيك العافية