الخيال المدهش

28/07/2020 7
عبدالله الجعيثن

في عصر المطرب والملحن إبراهيم الموصلي وابنه إسحاق وتلميذه زرياب، لم يكن هناك تصوير ولا تسجيل، لذلك لا يراهم إلا قلة من النخبة، وإن كانت شهرتهم ملأت الآفاق، ووصلت الأندلس من بغداد، وكانوا من كبار أثرياء عصرهم، فالفن الأصيل (يوكل حلوى لا مجرد عيش) إلا في هذه الأيام التي طغى فيها تافه الأغاني والأفلام على أصيلها وهبط بالذوق العام.

وقد استغل الأصفهاني في أخباره عن مغني ذلك العصر عدم رؤية الجماهير لوجوههم رغم إبداعهم وشهرتهم، في تأليف حكايات كثيرة مدهشة ومثيرة، أكثرها من خياله الخصيب، وبعضها له أساس، حكايات تنتهي بمفاجآت، وتجري أحداثها الطربية في القصور وحفلات الزواج وعلى مراكب تمخر دجلة والفرات، فكثيراً ما يجعل الموصلي طفيلياً يتسكع لا يكاد يسمع مغنية في أحد قصور بغداد، حتى يدخل القصر من أوسع الأبواب، ودوماً القصور عند الأصفهاني مفتوحة الأبواب، تستقبل من هبّ ودب، ومن حضر أو غاب، يدخل بلا استئذان فيجلس مع الحضور الكثيرين المبهورين بالجارية الحسناء وبصوتها الجميل وعزفها العجيب، ثم لا تكاد الحسناء تُنهي أغنية حلوة وتلتهب الأكف بالتصفيق وتعلو الأصوات بالاستحسان، حتى (ينط) هذا الطفيلي ويقول: ما أحسنتِ ولا أجدتِ! ويُعدد عليها الأخطاء والمساوئ، فتغضب الحسناء وتقول: والله لن أغني حتى تضربوا هذا الطفيلي وتطردوه شرّ طردة! فيهجم الخدم عليه فيوقفهم صاحب القصر المنيف ويقول ساخراً يريد أن يضحكوا عليه: سمّعنا! ويهمس في إذن الجارية (خلينا نهزئه ونضحك عليه) وتبتسم الجارية راضية، ولكن لا تكاد أصابع المطرب المغوار تهز أوتار العود حتى تهتز من الطرب الجدران وتلمع عيون الرجال والنسوان بالدهشة والإعجاب والاستحسان، ويجعلهم الطرب على وشك التحليق والطيران، فإذا ترنّم بصوته الساحر بعد نغمه الباهر أخذهم من النشوة ما لا يُطيق إنسان، هنا تقفز الجارية فتُقبل رأسه ويديه وتقول وهي جاثية بين قدميه: سيدي ومولاي إبراهيم الموصلي! ما أقوى خيال صاحب الأغاني! أقوى ممن يحلمون بتدبيلة في سوق الأسهم كل أسبوع.

 

نقلا عن الرياض