10% للموهبة و90% للعمل

30/06/2020 1
عبدالله الجعيثن

ولكن بعض الناس لا يفطنون إلى الموهبة الكامنة فيهم.. إمَّا لأنهم درسوا دراسة تختلف عنها - أو انخطروا في عمل بعيد عنها.. أو لمفاهيم اجتماعية بالية وضارة مثل عدم احترام الحرف اليدوية..

ولكن تلك الأسباب مجتمعة.. ونحوها.. لا تُساوي في ضررها معشار ما يساويه الكسل والركون إلى الموهبة اعتقاداً بأنها كافية لتحقيق النجاح وتوفير حياة كريمة وسد ثغرة في المجتمع.. ولا يكاد يوجد في هذه الدنيا إنسان فاشل بالمعنى الحقيقي لهذه الكلمة، ولكن للفشل الظاهر عدة أسباب أهمها سببان:

1- أن يعمل الإنسان في عمل ليس له فيه أي موهبة أو محبة، وهنا قد يكدح بدون نتيجة مرضية، مثله مثل الذي يحرث أرضاً سبخة لا ماء أبقت ولا نبتاً أظهرت..

2- أن يركن الإنسان لموهبته في عمل ما .. أو علم أو فن.. ولا يعطي هذه الموهبة حقها من العمل الجاد.. بل يكون مزاجياً يعمل على هواه.. وينتظر طيور الموهبة تقع على يديه..

وهذا أسوأ من سابقه مهما أبدى من حماسة ملفوفة بورق الكلام، غير مقرونة بالمثابرة ومواصلة الأعمال..

فإن الموهبة تشبه "الخميرة" التي تساعد على صنع الخبز ولكن الخميرة وحدها لن تقدم لنا خبزاً مهما حاولنا.. وتشبه "الفراوة" التي تحول الحليب إلى لبن، ولكنها لن تفعل بدون وجود الحليب أصلاً.. والحليب هو العمل.. وتشبه الشرارة التي توقد حطباً في برد الشتاء.. ولكن ما لم نحضر الحطب أولاً ونتعب في إحضاره فلن تدفينا الشرارة مهما نفخنا حماسة، لأننا سنكون كمن ينفخ في رماد..

@@@

إن العمل قيمة إسلامية وإنسانية كبرى، فعمل الدنيا نفسه عبادة في الإسلام طالما أخلص الإنسان وكان هدفه مشروعاً: إعفاف نفسه .. الإنفاق على من يعوله.. والتدرج في سلم النجاح وإحراز المزيد من المال الحلال.. هذا عبادة وشرف - وما ينفقه الإنسان في حقه له فيه أجر..

ومما يؤسف له أن قيمة العمل ابتدأت تضعف لدى العرب والمسلمين، على عكس ما هي عند الغرب والغربيين، فالعمل عند الغربيين مقدس محترم يعطونه حقه كاملاً ويحرصون على إتقانه .. وهذا سر نهضتهم.. أما سر تخلف العرب والمسلمين فهو استخفافهم بالعمل وتهاونهم به وحرصهم على التملص منه، وإن عمل كثير منهم عملوا وهم كارهون.. ولم ينشدوا الكمال الممكن والاتقان.

مع أن رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم يقول: "إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه".

بل إن الله عزَّ وجلّ يقول: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} ( 39سورة النجم).

@@@

حتى في المواهب التي يُخَيَّل إلينا أنها مجرد إلهام كالشِّعر ونحوه.. فإن العمل يظل هو سيد الموقف وعمود الخيمة.. وما لحظات الإلهام التي تبدو أمام أصحابها كبروق تلمع فجأة.. إلا نتاج سلاسل طويلة من العمل كالقراءة والتأمُّل.. فضلاً عن هذا فإن بروق الإلهام الخاطفة تقدم للشاعر رؤى مبهمة وهدايا ناقصة عليه بالجهد والعمل أن يكملها على ما يرام..

وإذا كنا قد وضعنا عنوان هذا المقال: "10% للموهبة و90% للعمل"، فإن كثيراً من الشعراء والفنانين الكبار يرون أن الحاجة للعمل أكبر من تلك النسبة الكبيرة لكي تؤتي المواهب ثمارها.. فالشاعر الألماني المشهور "جوته" يقول: "واحد في المائة للإلهام وتسعة وتسعون في المائة للعرق".

وبيكاسو يقول: "إني أتعجل كل مساء في العودة إلى العمل وإن لم يكن لديَّ إلهام.. إن العمل يصنع الإلهام".

ويقول بودلير:

"ينحصر الإلهام في أن نعمل كل يوم".

ويقول المثَّال "رودان":

لا تعتمدوا على الإلهام واعتبروه كأنه غير موجود.. فالصفات الوحيدة للفنان هي المثابرة والانتباه والإتقان فتقدموا لعملكم وتقدموا بعملكم كما يفعل العمال الكادحون المخلصون، بل إن "أندريه جيد" يحلل المسألة هكذا:

"كل عمل فني مسألة رياضية لا بد من حلها.. مسأل تتكوَّن من عدد كبير من مسائل متوازية تنتظر كل منها حلاً خاصاً بها، أي تنتظر الكلمة المناسبة التي لا يغني غيرها عنها في مكانها.. وما أسماه الرومانسيون إلهاماً يتحلل هكذا إلى عدد لا نهاية له من الجهود الصغيرة".

وقد سأل مثَّالٌ شابٌ موهوبٌ أستاذه رودان عن أفضل الطرق لإبداع الفن فقال له:

"بالعمل.. ليس للفنان سرٌّ غير هذا.. وليس لدي ما أقوله لك غير هذا: ان اعمل وشكل وأحضر ذلك لي وسأقول لك رأيي.. نعم اعمل.. سعدتَ مساءً!".

@@@

ولو تمعنا في إنتاج أكبر الشعراء الموهوبين كالمتنبي والمعري وأحمد شوقي، لوجدناهم قد عملوا كثيراً كثيراً، فهم كانوا يقرأون في الليل والنهار، ويحفظون روائع الأشعار، ويقدحون زناد الخيال، ويشذبون شوارد الإلهام، ويراجعون أشعارهم، حتى صار قول الشعر يجري على ألسنتهم نتيجة تراكم الخبرة النابعة من العمل ثم الموهبة.. تماماً كتراكم الثروة لدى رجل أعمال كدّ وكدح وثابر وصبر حتى أعطت أعماله نتائجها..

@@@

إن المجتمع - كل مجتمع - يحتاج لمختلف المهن والأعمال..

وإن المواهب مقسومة بين الناس بما يوازي حاجة المجتمعات ويدفعها إلى الأمام باستمرار إذا (فُعِلت) تلك المواهب.. المواهب العلمية والتجارية والحرفية والشعرية والفنية.. وفي كل مجال.. ليس النقص في المواهب.. قلما يوجد إنسان بدون موهبة ما تكفل له عيشاً رغيداً وتسهم في خدمة مجتمعه.. النقص هو في المثابرة على العمل.. والصبر على أول الطريق.. أو سنوات التأسيس التي تحتاج لمزيد من الكد والمثابرة حتى تتأصل الموهبة وتثبت جذورها في الأرض وتصبح كالشجرة المباركة.. إن الاستعجال.. وعدم الصبر.. وعدم المثابرة.. والاستخفاف بالعمل.. هي العدو اللدود للمواهب.. وللنجاح.. وللتقدم في كل مجالات الحياة.

فمهما كانت موهبتك فنمها بالعمل والمثابرة.. فهي لن تنمو إلا بالعمل والتجربة والمثابرة التي تزيد موهبتك أصالة.. وخبرتك قدرة.. وبدون هذا.. بدون العمل الجاد.. والمثابر .. تضيع أجمل المواهب.

@@@

إنَّ الطريق طويل.. ولكنه سالك.. والسير فيه بهمة ونشاط خيرٌ ألف مرة من الانتظار الغبي.. أو السقوط المشين.. بل إن السير فيه بهمة ونشاط هو سبيل النجاح والابتهاج بالحياة..

 

نقلا عن الرياض