حين سافر ابن خلدون من المغرب إلى مصر تولى القضاء في القاهرة، وسكن على النيل، فقيل: إنه قد تبسّط، وهي كلمة ملطفة لمعنى مريب وقتها!
قال الدكتور علي الوردي في كتابه القيم «منطق ابن خلدون»:
«وسألت بعض إخواني من الأساتذة المصريين عن وجه الذم فيما نُسِب إلى ابن خلدون من التبسط بالسكنى على البحر؛ أي على نهر النيل؟! ففسروا ذلك بأنّ القاهرة في ذلك العهد كانت بعيدة عن شاطئ النيل، وكان الشاطئ لا يسكنه إلا المستهترون الذين يبتغون الابتعاد عن الأحياء المزدحمة بالسكان لئلا يراقبهم أحد. وهذا تفسير لطيف». ص 248
قلت: وهذا التفسير - على لطفه - لا يكفي، فإنّ لابن خلدون حساداً، ثم متى كانت القاهرة بعيدة عن النيل وهو شريانها؟ وهل كل من ابتعد عن المدينة يكون مريبا؟ فقد قيل: الأطراف مساكن الأشراف، وعللوا ذلك بأن علية القوم يريدون نقاء البيئة والبعد عن الزحام والضوضاء، وهم قادرون على التبضع من المدينة بواسطة الخدم، وسيذهب لهم من يريدهم، بل إن علية القوم هم من يصنع تقاليد المجتمع، ويحدد الأحياء الراقية من غيرها بالسبق في السُّكنى فيها، ثم يقلدهم القادرون، وتكون المنازل والأحياء البعيدة فاخرة.
أما في القرى فقد يُعاب على من يبتعد بمنزله عن مساكن الناس (لماذا ابتعد؟!) سؤال مُبطّن وقد يكون له ما يبرره.
وفي العصر الأموي، زاد الترف في الحجاز؛ لأن ساسة بني أمية أغرقوهم بالمال، فانشغلوا بالترف، فتقدم عدد من الآباء إلى والي المدينة يشكون شباباً أغنياء يسهرون كل ليلة في روضة بعيدة عن المدينة ويتبعهم أبناء بعض الشاكين، فأحضرهم القاضي فأنكروا، فقال أحد الشاكين: أيها الوالي، إذا صلينا العشاء فأطلق (حميرهم) فإنها ستذهب وحدها إلى الروضة القصيّة؛ لأنها اعتادت فعل ذلك، فانطلقت الحمير إلى المكان نفسه، فصرخ بهم الوالي: قام عليكم الدليل!، قال شاب ذكي: أيها الوالي لا يسمع بنا أهل العراق فيقولون إن أهل الحجاز يقبلون شهادة الحمير! فضحك الوالي وأخذ عليهم التعهد بعدم الذهاب إلى ذلك المكان!
نقلا عن الرياض