الأزمة الاقتصادية في لبنان .. هل تحوّله إلى "يونان" جديد؟

26/03/2020 2
عاصم الرحيلي

استيقظ العالم صبيحة يوم 17 أكتوبر/تشرين الأول 2019 على احتجاجات شعبية ضخمة أمام البنك المركزي في لبنان، والتي امتدت لتشمل الجمهورية من أقصاها لأدناها، وفي حين يرى البعض أن فتيلها كان ضريبة الواتساب التي أقرّتها الحكومة اللبنانية كسابقة على مستوى العالم، والتي تقتضي بدفع كل مواطن مبلغ 6$ شهريًا لاستخدامه، يرى آخرون أنها لا تعدو عن كونها "قمة الجبل الجليدي الذي يخفي تحته ما هو أعظم".

فأزمة لبنان الاقتصادية "الحقيقية" بدأت مع نهاية الحرب الأهلية، وتحديدًا مع تثبيت الحكومة سعر صرف الليرة اللبنانية إثر استمرار تدهور الأخيرة أمام العملات الأجنبية.

لكن هذه الممارسة "غير المدروسة" دفعت بالاقتصاد اللبناني إلى الحضيض.

فبعد أن كانت نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي (GDP) لا تتعدى 47% عام 1992، ما يعني أن الاقتصاد اللبناني كان مستقرًا -نوعًا ما- بحيث ينتج ويبيع السلع والخدمات الكافية لسداد الديون دون تكبد المزيد منها، وصلت النسبة -عام 2019- إلى أكثر من 152%، مما اُضطر البنك المركزي للاقتراض من البنوك الخاصة -بعد نفاد مخزونه من العملة الصعبة- ليُضيف ذلك دينًا داخليًا جديدًا!

هذه الممارسات جعلت من لبنان من بين الدول الأكثر مديونية في العالم، ليحتلّ -بحسب صندوق النقد الدولي- المرتبة الثالثة عالمياً من حيث نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي.

مصائب البنك المركزي عند البنوك الخاصة فوائد!

في ظل صعوبة تحصيل مستحقات القروض من المستدينين، وجدت البنوك الخاصة في البنك المركزي "فريسة سهلة"، فاستثمرت نصف موجوداتها فيه (دون أن ننسى أن ربعها الآخر موجود بصورة قروض للقطاع الخاص محفوفة بالمخاطر).

ورغم أن هذه الممارسة أفادتها -على المدى القصير- لكنها تضعها الآن أمام "تسونامي اقتصادي" قد يُطيح بها: فقد أصدرت الحكومة الجديدة (برئاسة رئيس الوزراء اللبناني حسان دياب) قرارها بتصفية المؤسسات المالية العاجزة عن الاستمرار، ومع تباطؤ التدفقات المالية الخارجية إلى لبنان، وأخذنا خطر ارتفاع معدلات الهجرة التي قد تشهدها الجمهورية بعين الاعتبار، ستكون البنوك الخاصة كمن سقط بين فكيّ كماشة، فمن جهة: مصرف لبنان مضطر للاستمرار في الاستدانة منها، ومن جهة ثانية، صافي الاحتياطي السلبي بالعملات الأجنبية الذي يُقدّر بنحو 30 مليار دولار سيؤدي -بمرور الوقت- إلى انخفاض قيمة العملة وفقدان الثقة بالليرة أكثر.
وبالتالي -وبغض النظر عن رؤوس أموال تلك المصارف- ستنفد الأخيرة في النهاية فتخرج البنوك الخاصة من اللعبة التي أحبّتها!

هل من مخرج؟

بما أن الأزمة في مرحلة متقدمة -لا كما يتصور البعض أن الانهيار قد حصل- توجبّ على الحكومة الجديدة مهمة اتخاذ إجراءات سريعة بناء على سياسات تحمل أبعادًا اقتصادية ومالية وتنموية. لكن اعتماد لبنان لسنوات خلت على الاقتصاد الريعي، يجعل مهمة الخروج من عنق الزجاجة أصعب بكثير. اللهم إلا إن تمّت إعادة هيكلته إلى اقتصاد منتج من خلال وضع خطة تنمية شاملة تربط السياسة المالية والسياسة النقدية للبلاد. وذلك من خلال دعم كافّة القطاعات الحيوية والإنتاجية (وخاصةً تلك المستفيدة من تدهور العملة المحلية).

الحل الآخر هو ما اتخذته الدولة اللبنانية بالفعل عبر طلبها مساعدة فنية من صندوق النقد الدولي بهدف وضع خطة لتحقيق الاستقرار بما يتعلق بأزمته المالية والاقتصادية، ويشمل ذلك كيفية إعادة هيكلة دينه العام (والذي وصل إلى 89.5 مليار دولار في نهاية نوفمبر/تشرين الثاني الماضي!).

"الاقتصاد المصعوق!"

لم نجد عبارة أفضل من هذه لوصف العبء الذي يُلقيه قطاع الكهرباء على عاتق الدولة، فكما هو معروف تتكبدّ لبنان سنويًا نحو 850 مليون دولار لاستئجار البواخر التركية لمدة 5 سنوات، هذا عدا عن ما بين 600- 800 مليون دولار "ضائعة" في خطة الكهرباء

إضافةً للتهرب الضريبي المرتبط بفواتير الكهرباء غير المسددة و"سرقة الخطوط من أعمدة الإنارة". والحل بسيط: بناء معامل إنتاج إضافية (1666 ميغاوات) قادرة على تغطية حاجة السوق في أسرع وقت ممكن.

كسب ثقة صندوق النقد الدولي تقتضي أيضًا استعادة ما وصفه النائب السابق لحاكم مصرف لبنان غسّان العيّاش "الأموال المتبخرة" وهي مجموع ما حوّله أصحاب المصارف الخاصة وتقدّر بـ مليارين و300 مليون دولار.

ولندرك خطورة الأمر، لا بدّ أن نتذكر أنّ قيمة احتياطات مصرف لبنان بالعملة الأجنبيّة تبلغ حوالى 31 مليار دولار فقط (منهم 19 مليار احتياطي إلزامي مفروض أيّ لا يمكن إنفاقه والدفع منه)، ما يعني أنّ دفع الاستحقاقات المتوجّبة عن شروط العقد -الذي فرضه صندوق النقد الدولي- سيقلّص من الاحتياطات أكثر.

وهذا يتطلب تفعيل القضاء اللبناني قانون (الإثراء غير المشروع) وإلغاء السرية المصرفية عن كل الذين تعاطوا الشأن العام، ورفع الحصانة عن النواب والوزراء.

وإن كنا نعتقد أن لبنان قادر على الخروج من أزمته الحالية (وإن تطلّب ذلك بضعة سنوات) لكن أكثر ما نخشاه هو أن يمرّ بما تمرّ به التجربة اليونانية، فعلى الرغم من وصولها لبرّ الأمان ظاهريًا: حيث استطاعت اليونان الخروج من تحت الوصاية المالية التي فُرِضت على البلاد من قِبَل الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي والبنك المركزي الأوروبي،

لكن عموم المواطنين لم يلمسوا النتائج الإيجابية الاقتصادية الكليّة، فهم لا زالوا يعانون من المشاكل نفسها منذ سنوات. الأمر الذي قد يُنذر بالعودة إلى ممارسات الاقتصاد الموازي التي كانت من مسببات الأزمة، ومن أبرزها: التهرُّب الضريبي الذي حرم خزينة الدولة من 30 مليار يورو سنويًا.

اليوم، يقف لبنان أمام مفترق مصيري، لذا يتوجب عليه إعلان خطة طوارئ اقتصادية، وربما من خلال الحلول التي ذكرناها (بالإضافة إلى حلول أخرى) يمكن للبنان أن يتخطى هذه الأزمة، بشرط أن تتضافر الجهود الداخلية في لبنان بدلاً من ممارسة السياسات السابقة في استجداء الخارج.

 خاص_الفابيتا