* هذا العنوان عبارة كتبها رجل على باب داره من الداخل، بحيث يقرؤها كلما أراد الخروج، وهذا الرجل هو عثمان بن محاسن من أهل الأندلس، كما روى ذلك ابن حزم في رسالته "تهذيب الأخلاق" ص 59نشر المكتبة السلفية بالمدينة المنورة، وتحقيق عبدالرحمن محمد عثمان طباعة سنة 1390هـ.
والعبارة صائبة ونافعة، فمصارع الرجال تحت بروق الطمع، وهي بروق خُلَّب في معظم الأمور، والبرقُ الخُلَّب هو الذي لا يعقبه مطر.. كما لاخفاء!
والطمع سلم ينتهي بصاحبه إلى الشقاء، لأنه يطمع في أشياء كثيرة لا يستطيع الحصول عليها، ولأن الطمع يجعل صاحبه فقير النفس، متطلعاً، حريصاً، متلهفاً، لاهثاً، فأين منه الراحة؟ وأين منه السعادة؟ وأين منه الإحساس بالنعمة والشكر عليها؟ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض، ولكن الغنى غنى النفس" متفق عليه..
والطماع فقيرُ نفس.. يريد المزيد.. والمزيد.. إلى ما لا نهاية.. وهو دائماً مشرف النفس متطلع لما يستحق وما لا يستحق، فلا يبارك له فيما ينال، ولا يهدأ له بال عما لم ينله، في الحالتين هو في هم.. وغم.. وانشغال بال.. وحرقان قلب.. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنَّ هذا المال خضرٌ حلو، فمن أخذه بإشراف نفس لم يُبارك له فيه، وكان كالذي يأكل ولا يشبع، واليد العليا خير من اليد السفَلى" ـ متفق عليه.
والطماع صاحب يد سفلى دائماً!!.. لأنه يتطلع لما في أيدي الآخرين.. ويذل لهم.. وهو والطفيلي صنوان، قريبان من بعض، قال مصطفى صادق الرافعي رحمه الله تحت عنوان:
أحزان طفيلي
"النفوس المضطربة بأطماعها وشهواتها تُبءتَلى بهموم الكثرة الخيالية وكأنها في الهم مثل طفيلي مغفل يحزن لأنه لا يأكل في بطنين"!!
قلت: بل ان ابن حزم ـ رحمه الله ـ يرى أن الطمع هو سبب كل الهموم.. يقول: "إن الطمع سبب إلى كل همّ في الأموال والأحوال، فإننا نجد الإنسان يموت جاره وخاله وصديقه وابن عمته وعمه لأم وابن أخيه لأم وجده أبوأمه، وابن بنته، فإذ لا مطمع له في ماله "لأنه لا يرثه" ارتفع عنه الهم بفوت ذلك المال، وان جلّ خطره وعظم مقداره، فلا سبيل إلى أن يمر الاهتمام بشيء منه بباله..
وإذا مات له عصبة على بعد، أو مولى على بعد (ممن يرثهم) حدث له الطمع في ماله وحدث له من الهم والأسف والغيظ والفكرة بفوت اليسير منه عن يده، أمرٌ عظيم..
وهكذا في الأحوال تجد الإنسان لا يهتم لتقريب غيره أو ابعاده، من رتبة أو منصب، حتى إذا حدث له مطمع في تلك الرتبة حدث له من الهم والفكرة والغيظ أمر ربما قاده إلى تلف نفسه وتلف دنياه وأخراه..
فالطمع إذن أصل لكل ذُلّ، ولكل هَمّ، وخلقُ سوءٍ ذميم، وضده نزاهة النفس، وهي صفة فاضلة مركبة من النجدة والجود والعدل والفهم، لأنه رأى قلة الفائدة في استعمال ضدها فاستعملها، وكانت فيه نجدة انتجت له عزة نفسه فتنزه، وكانت فيه طبيعة سخاوة نفس فلم يهتم لما فاته، وكانت فيه طبيعة عدل حبّبت اليه القنوع وقلة الطمع.
إذن فإن نزاهة النفس متركبة من هذه الصفات، فالطمعُ الذي هو ضدها متركب من الصفات المضادة لهذه الصفات الأربع، وهي الجبن والشح والجور والجهل.
والحرص طمع مستوفى متزايد مستعمل، ولولا الطمع ما ذلّ أحدٌ لأحد.."
تهذيب الأخلاق ومداواة النفوس ص 58
والطماعون هم أكثر من يقعون على وجوههم في فخاخ النصابين!.. فالنصاب يغري الطماع بشيء كثير ثمين مقابل ثمن يسير!.. وهذا هو الدود الذي يصاد به الطماع كما تصاد الأسماك في أعماق البحار حين يضع لها الصياد دوداً في السنارة! ثم يعلقها من لهاتها!..
النصابون يبحثون عن الطماعين لأنهم صيد مضمون!.. ولأن الطماع في داخله غريزة النصب بقوة!.. فهو يريد ما ليس له!.. ويطمع في الثمين بسعر بخس!.. ومنطقه (أريد الكويس والرخيص) وهو منطق قلّما يتحقق!..
وبما أن الطماع في داخله غريزة النصب، فإن النصاب المحترف يعرف ذلك، ويقدم عرضاً مغرياً للطماع يغذي في الطماع غريزة النصب، فيندفع حتى يظفر بالغنيمة وينصب على صاحبه، ولكن هذا أشطر منه، فيهرب بالغنيمة كاملة، ولا يترك للطماع إلا الحسرة والندامة!! ويتضح للطماع نقصان عقله بعد انجلاء الأمور، وأنه كان يظن نفسه صائداً فاذا به (مَصِيد)! ومما يساعد النصابين في كل زمان ومكان، على اصطياد الطماعين، وايقاعهم على وجوههم، أن الطمع يخدر عقولهم، ويزين لهم سوء أفعالهم، بل ان الطمع الشديد يطمس العقل، يقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه: "ما الخمرُ صرءفاً بأذهبَ لعقول الرجال من الطمع".
لا تطمع في كل ما تسمع
والطماع إنسان شره يريد الكثير جداً بالقليل جداً.. ولهذا قالوا في الأمثال الشعبية (طمّاع أرفل)! وكل طماع أرفل في الواقع!.. و(الأرفل) هو البليد الذي لا يحسن الأمور.. ولو كان الطماع يعرف الأمور ويحسنها لادرك بداهة انه ينبغي ان يعطي بقدر ما يأخذ، وألاَّ يتشطر على الناس!
والطماعون كثيراً ما يفلسون، لأنهم حين يطمعون في مربح وافر جداً يسارع الطمع فيحضهم على وضع جميع أموالهم فيه والاستدانة أيضاً، وهكذا فإن الذين يغسلون في البورصات هم الطماعون بالدرجة الاولى..
فوق هذا فإن الطماع يسهل اصطياده على مطلقي الاشاعات حول الأسهم أو العقار فيندفع قد أعماه الطمع فيجد ما تسوء عاقبته..
وأشعب كان يطمع في كل ما يسمع!..
وفي كل ما يرى!.. وقد قيل له ما بلغ من طمعك يا أشعب؟ فقال: ما رأيت صانع قدور إلا قلت له: كبرّ القدر.. طمعاً في أنء يُهءدى لي فيه.. وما رأيت اثنين يتهامسان إلا رجوت أن يأمرا لي بشيء!.
وأشعب طماع وطفيلي، وكل طماع فيه شعبة من التطفل، لأنه يطمع فيما لا يستحق، أما الذي يطمع في نيل حقه ويبذل جهده في سبيله فليس طماعاً..
والناس يكرهون الطماع ويبتعدون عنه، ويحرصون على عدم التعامل معه، خاصة في البيع والشراء، وهكذا يجني الطمع على صاحبه، ويحقق له عكس مراده، فتقل أرباحه، وهي غاية مناه، وتشح مكاسبه، وينصرف الناس عنه، ويكرهونه أيضاً، فلا يعطيه طمعه وحرصه إلا كراهة الناس له، وافتقاره المادي أو المعنوي، أو كليهما معاً، والفقر المعنوي مؤكّد لكل طماع حريص، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أجملوا في طلب الدنيا، فإن كُلاّ ميَسَّرٌ لما خُلقَ له".
والاجمال في الطلب هو ان يطلب الإنسان رزق ربه بنفس جميلة لا جشع فيها ولا طمع ولا حرص يذل..
وكان من دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم: "اللهم اني أعوذ بك من علم لا ينفع.. ومن قلب لا يخشع..
ومن نفس لا تشبع..
ومن دعاء لا يُسمع"
وقال صلى الله عليه وسلم: "ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم، بأفسدَ لها من حرص المرء على المال والشرف، لدينه".
وحب المال مركوز في طبع الإنسان، ولكن العاقل يسعى للمال بجهده وشرفه ومعه خلقه ومروءته وكرامته، تلك أشياء أغلى من المال، ولا يذلها ولا يفسدها مثل الطمع والحرص، فما صحبهما كريمُ نفس قط..
نقلا عن الرياض
لا شك ان الطمع من الخصال المذمومة إنسانيا وتم التحذير منه والتندر على أصحابه في الموروث الشعبي ، غير انه قد يستشكل احيانا التمييز بينه وبين الطموح في بعض الجوانب