راجعت طبيباً في القاهرة مرتين، بينهما أكثر من ثلاثين عاماً، وفي الزيارة الثانية وجدته في نفس العيادة والعمارة والحي، لم يتغيّر شيء! وأول شقة سكنتها في القاهرة عام 74 كانت في العمارة رقم (1) سليمان باشا! وما أزال كلما زرت القاهرة أمرّ على تلك العمارة أسلم وأستعيد الذكريات! ما زالت العمارة كما سكنتها كأنما غادرتها أمس! وكذلك عادة الطبيب!
الأمر نفسه في لندن وباريس وفينا وغيرها من مدن العالم! الأحياء تظل شابة سنوات طويلة متوالية! والعمائر تقف شامخة وقد جاوزت أعمارها المائة وهي لا تزال شابة! ولا يزال الحي الذي هي فيه راقياً ينبض بالحياة!
عندنا تشيخ الأحياء سريعاً! تفقد شبابها في بضع سنين! يهجرها أهلها فجأة! فما أسباب شيخوخة الكثير من أحياء مدننا وهي في عزّ الشباب؟! وما أسباب هجرة ساكنيها إلى أحياء أخرى في فترات وجيزة وبتعاقب مدهش؟!
لا شك أنّ للطفرة، أو الطفرات الاقتصادية المتلاحقة، التي مرّت على مجتمعنا واقتصادنا، دوراً كبيراً في ذلك، يُضاف إلى ذلك السماح للمؤسسات والعمال بالتواجد والسكن داخل تلك الأحياء (ربما تم منع ذلك الآن) ومن الأسباب الأخرى رداءة التنفيذ في بعض العمار القديم، إذ تعلّم فينا كثير من المقاولين والعمال (حتى أصبحت بلادنا أكبر ورشة في العالم تقريباً لتدريب العمال والوافدين!) كثير منهم يأتي لا يُحسن شيئاً ولا يملك أي مهارة وبقدرة قادر يصبح مقاولاً أو حتى (مهندساً) ويزعم العمال غير المهرة أنهم يتقنون كل شيء ويفهمون في كل أمر!
بالإضافة إلى ما سبق فإن (التفاخر وحب المظاهر) خصال غير مرغوبة ولكنها موجودة عند كثير مناّ، فيتبارى هؤلاء في تغيير مساكنهم وتكبيرها وهجر الأحياء كاملة الخدمات إلى أحياء جديدة بعيدة غير مكتملة البناء ولا الخدمات يثور فيها الغبار ليل نهار بفعل حركة البناء التي لا تهدأ ولا تنام، وكثير من هؤلاء ندموا على بناء منازل كبيرة جداً فوق الحاجة، خاصة بعد زواج الأبناء والبنات! يوحش البيت الكبير على الشيخ والعجوز وتثقل مصاريفه!
إنها دعوة لتجديد الأحياء القديمة ذات الخدمات المتكاملة والشوارع الفسيحة مثل الملز وعليشة والبديعة القديمة والمخططات الأولى من العليا، وأن نتسم بالطمأنينة والسكينة في منازلنا التي تحوي أجمل ذكرياتنا وأقدم جيراننا ومعارفنا، وأن نكتفي بمنازل مناسبة لعدد الأسرة المستقبلي دون توسع مكلف ولا إسراف مهلك.. إنّ الله لا يحب المسرفين.
نقلا عن الرياض