كثيرون تناولوا قضية الثقافة من جوانبها المختلفة وأضاؤوا على فوائدها وأهميتها لدرجة أن أي عنوان يشير إلى هذا الموضوع بات وكأنه تكرار لكل ما قيل في السابق. لكن الحقيقة أن الكثير من المساحات التي تتعلق بهذه القضية لا زالت غير مكتشفة، فالأدب على سبيل المثال، وبوصفه حالة لا نهائية الأبعاد، يحتاج منا أن نقرأه وفقاً لسمات المرحلة وشروطها واحتياجاتها وهي سمات وشروط متجددة تمنح القراءة نتائج جديدة في كل مرة.
الثقافة في أحد جوانبها الأساسية، عملية اكتشاف للآخر قبل المعلومة، عملية بناء علاقة مع الكاتب قبل الكتاب أو المحتوى مهما كان تصنيفه، إنها حالة شراكة وليست أحادية الجانب. فلا قيمة للحكايات التي تحملها الكتب إذا اقتلعناها من سياق تجربة الكاتب الشخصية، أو إذا عزلناها عن طبيعة المرحلة التي أنتجتها بظروفها التاريخية والاجتماعية والثقافية، وإذا لم نتفاعل معها كأننا نعيشها تماماً مثل أبطالها وشخصياتها، إنها نتاج عملية يتوسط فيها الكاتب بين ذاته وأمته، وبين هذه الأمة والأمم الأخرى. حتى السير الذاتية للأبطال ورموز التاريخ، كانت في حقيقتها سرداً لسير الشعوب والأمم في كافة حالاتها، في كفاحها وطموحها، في أحلامها وآلامها ، لذا ليس المهم فقط ماذا نقرأ وماذا نكتب وإنما كيف ولماذا نقرأ ونكتب.
نحن نقرأ لنَكتشف، ونكتب لنُكتشَف، ويمكننا القول إن الإنسان ابتكر الكتاب حتى يبقى حياً ولا يبتلعه الزمن، والأهم، حتى لا يبقى مجهولاً للآخرين.
نحن اليوم بأمس الحاجة إلى استعادة هذه الوظيفة للثقافة والكتاب، ونرى أن القراءة بهدف معرفة الآخر كفيلة بمعالجة الكراهية والتطرف والتنكر لحق من لا نعرفهم بالحياة. من السهل أن نكره المجهول حتى لو لم تتوافر الأسباب الكافية لهذه الكراهية، يكفي ألا تربطنا به أي عاطفة حتى نتعامل مع حزنه وآلامه ومعاناته بلا مبالاة، فالإنسان بفعل العادة يتفاعل فقط مع معاناة من يعرفهم، حتى لو كانت هذه المعرفة أو عدمها نتاج الصدفة فقط، وهذا دليل صادم على أن الصدفة باتت تشكل وجدان البشر وتحدد طبيعة مشاعرهم تجاه الآخرين.
هذا المفهوم للثقافة والكتاب هو جوهر رؤية الشارقة بقيادة صاحب السمو الشيخ الدكتور سلطان بن محمد القاسمي، عضو المجلس الأعلى حاكم الشارقة، وهو غايتها من الحراك الثقافي الدولي الذي تمارسه منذ عقود والذي تجلى في حضور إمارة الشارقة هذا العام ضيف شرف على معرض ساو باولو، وقبله كانت ضيف مميز على معرض باريس الدولي للكتاب، وستحل في العام القادم ضيف شرف على معرض نيودلهي الدولي للكتاب ومعرض تورينو للكتاب أيضاً. هذا الحضور للشارقة له أبعاده وهي تجاوز حواجز الجغرافيا واللغة، حواجز صنعتها الصدفة لنتجاوزها بالإرادة والضرورة الإنسانية.
فنحن بالصدفة خُلقنا في مساحات متباعدة، بجنسيات ومفاهيم مختلفة وبألوان ومعتقدات مبتاينة. لكن بالإرادة طورنا الحياة، بالإرادة والرغبة في اكشتاف المجهول انتقل الإنسان من العراء إلى الكهوف، بتغليبه وعي الضرورة على الصدفة غادر الكهوف وبنى المدن واخترع وصنع واكتشف الكواكب، لو سلّم الإنسان بالصدفة، لما وصلنا إلى ما نحن عليه، وإذا بقينا نسلّم بالصدفة التي أوجدت الاختلافات بيننا فإن هذا التطور المادي يكون بلا معنى لأنه يفقده البعد الإنساني ويضعف مقومات بقائه.
علينا أن نطور طريقتنا في التعامل مع الاختلافات، ولو فهمنا أسبابها الحقيقية سنكتشف أنها سر ثراء وجمال اللوحة الإنسانية. تخيلوا أنكم تنظرون إلى لوحة من لون واحد وبنفس الدرجة، أين الجمال فيها بدون اختلاف وتباين الألوان؟ أليس هذا الاختلاف في الثقافات هو سر اندهاشنا بموسيقى وشعر وأغنيات الآخرين؟؟ ألا نفرح وننبهر بسماع الموسيقى اللاتينية أو الشرق آسيوية أو الأوربية، ألا نشدو كلمات شعرائهم ونرددها في حزننا وفرحنا وحالات العشق والوجد والألم؟ ألا تزخر ذاكرتنا بقصصهم ورواياتهم؟ وهل من المنطق أن نحب أعمال الآخرين لهذه الدرجة ولا نحب في المقابل الناس الذين أنتجوها؟ حتى على صعيد العلاقات الدبلومسية والسياسية والاقتصادية بين الدول، كيف لها أن تنجح إلا بمعرفة تراث الآخر وثقافته وتاريخه.
لا أبالغ إذا قلت إن الإجابة على هذه الأسئلة كان يمكن أن تراها في جناح الشارقة المشارك ضيف شرف معرض ساوباولو الدولي للكتاب، كان ممكناً لكل من حضر أن يرى الشغف والتفاعل من المجتمع البرازيلي في قرائتهم لكتبنا وثراثنا وحضارتنا، رأينا الجمال في التناغم الثقافي بين الإمارات والبرازيل، رأينا ما لا يمكن أن تراه عين لا تبصر أهمية البعد الثقافي في علاقات الشعوب والحوار بينهما، رأينا دولة الإمارات تنثر رسائل الانفتاح الحضاري والإنساني شعراً ونثراً وأدباً وغناءً وثراثاً.
في دولة الإمارات أكثر من 200 جنسية، تعيش وتعمل وتمارس حياتها بتناغم قل مثيله في العالم، نتشارك المناسبات والموائد في المطاعم والأحاديث في العمل والأماكن العامة، بقرائتهم لثقافتنا وقرائتنا لثقافتهم، وصلنا بعلاقتنا إلى درجات جديدة من الانسجام، وهذا ما أراه ضرورة عالمية حتى لا يبقى الآخر مجهولاً!
إن الثقافة هي أرقى أشكال التبادل الإنساني الواعي التي طورها البشر عبر مسيرتهم التاريخية، وإذا لم تتجاوز الثقافة حواجز الصدفة، فهي في تعارض مع وظيفتها الأساسية قبل كل شيء.
-انتهى-